في حدث قليلاً ما يتكرر في التاريخ، 3 رؤساء دول غير عربية يجتمعون في عاصمة غير عربية لمناقشة مصير دولة كانت تعتبر العمود الفقري للدول العربية، فقد اجتمع في طهران أمس «ثلاثي أستانة» في قمة كشفت عن خلافات عميقة بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى حول مصير محافظة إدلب السورية التي يهدد النظام السوري بشن هجوم واسع عليها تخشى أنقرة والمجتمع الدولي من أن يؤدي إلى كارثة إنسانية تشمل عشرات آلاف القتلى وملايين النازحين. ولم تستطع القمة ضبط أزيز الرصاص والقذائف في ميدان إدلب، حيث نفذت المقاتلات الحربية الروسية والسورية أكثر من 70 غارة على ريفي ادلب وحماة، خلال ساعات الاجتماع، واسفرت عن مقتل وجرح اكثر من 15 شخصاً، مخلفة عدداً من المفقودين والعالقين تحت الأنقاض.
في خضم استعداد العسكري والأمني للنظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيون لإستعادة مدينة إدلب من المعارضة السورية العسكرية و فشل رؤساء إيران وتركيا وروسيا الجمعة -الفائت- في تجاوز خلافاتهم لكنهم اتفقوا على مواصلة “التعاون” من أجل التوصل الى حل لتفادي وقوع خسائر في الأرواح في هذه المحافظة بشمال غرب سوريا وحيث يحشد نظام بشار الاسد قواته استعدادا لهجوم يبدو وشيكا. حيث شهدت القمة سجالا بين الرئيسين الروسي والتركي حول صياغة البيان الختامي. فقد طالب اردوغان بـ”وقف لاطلاق النار”، محذرا من “حمام دم” في حال شنّ هجوم على المحافظة الواقعة على حدوده.إلا أن بوتين رفض الاقتراح مشددا على “عدم وجود ممثلين عن مجموعات مسلحة على الطاولة” مخولين التفاوض حول الهدنة، في موقف أيده روحاني.
وشهدت القمة التي بث جزء كبير منها على الهواء مباشرة خطاباً حاداً ومباشراً بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي تعمد الرد بحدة غير مسبوقة على مطالب أردوغان في تطور يكشف حجم الخلافات بين أبرز بلدين في مسار أستانة في سوريا. وبشكل عام، ظلّ الرؤساء الثلاثة متمسكين بمواقفهم فقد شددت طهران وموسكو على ضرورة محاربة “الارهاب” وحق دمشق في استعادة السيطرة على كامل أراضيها بينما حذرت تركيا التي تدعم مقاتلين وتستقبل لاجئين من “مجزرة”. وصرح روحاني عند استقباله نظيريه أن “محاربة الإرهاب في إدلب جزء لا بدّ منه في المهمة المتمثلة بإعادة السلام والاستقرار الى سوريا”، مضيفا “إلا أن هذا يجب ألا يكون مؤلما للمدنيين وألا يؤدي الى سياسة الأرض المحروقة”. واعتبر بوتين من جهته أن “الحكومة السورية الشرعية لها الحقّ في استعادة السيطرة على كل أراضيها الوطنية، وعليها القيام بذلك”.
وفي أثناء القمة قال الرئيس رجب طيب أردوغان:” ” لقد صرحنا في قمة طهران اليوم (الجمعة) وبكل وضوح عن أن الأساليب التي تتجاهل سلامة أرواح المدنيين السوريين لن تكون لها أي فائدة سوى أنها تخدم الإرهابيين. وعليه فإنه في حال ان جرى تجاهل قتل عشرات الآلاف من الأبرياء من أجل خدمة مصالح النظام السوري بشار الأسد، لن نكون شركاء ومتفرجين في هكذا لعبة “.
قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الجمعة، إن تركيا “لن تقف موقف المتفرج، ولن تشارك في مثل هذه اللعبة إذا غض العالم الطرف عن قتل عشرات الآلاف لدعم أجندةالنظام السوري”.وأضاف أردوغان، في سلسلة من التغريدات على “تويتر”، باللغات التركية والعربية والفارسية والروسية والإنكليزية، عقب اجتماع قمة ثلاثي مع رئيسي روسيا وإيران في طهران، أن “اللجوء إلى أساليب تستخف بحياة المدنيين سيخدم أهداف الإرهابيين”، مضيفا: “إذا غضّ العالم الطرف عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء لتعزيز مصالح النظام لن نقف موقف المتفرج، ولن نشارك في مثل هذه اللعبة”، وفق “رويترز”.
وشدد أردوغان، على ضرورة حل مسألة “إدلب” السورية، مع الالتزام بروح أستانة، موضحا: “ينبغي حل مسألة إدلب من دون مآس وتوترات ومشاكل جديدة، ومع الالتزام بروح أستانة”.وتابع أن “المحافظة على المبادئ التي اتفقنا عليها في أستانة تعد مهمة أيضا من ناحية إيجاد حل سياسي دائم للأزمة السورية”.وأعرب الرئيس التركي عن رفضه فرض الأمر الواقع، قائلا: “من الضروري عدم فرض الأمر الواقع في الساحة تحت ستار مكافحة الإرهاب ومعارضة الأجندات الانفصالية، التي تهدف إلى إضعاف وحدة الأراضي السورية والأمن القومي للدول المجاورة”، مشيرا إلى أن “تركيا سعت جاهدة منذ البداية لوقف إراقة الدماء في سورية، وقامت بحماية الأشقاء السوريين بدون أي تمييز”.وتابع: “اليوم أيضا كما كان في السابق لا نريد أن يصاب أي أحد من إخواننا السوريين”.
ومن المفيد الإشارة هنا وتعد محافظة إدلب التي تقابلها من الجهة التركية ولاية هاطاي- الخزان البشري الأهم للمعارضة السورية، وخلال الفترة الماضية نزح إليها آلاف المقاتلين وعشرات آلاف المدنيين ضمن اتفاقيات في ريف دمشق وحمص وحلب وسواها. وقد انضمت إدلب في أيلول/ سبتمبر إلى مناطق خفض التوتر في سوريا، بموجب محادثات أستانا التي ترعاها روسيا وإيران، الحليفة الأخرى للنظام، وتركيا الداعمة للمعارضة. وبموجب الاتفاق لدى تركيا 12 موقعاً عسكرياً في محافظة إدلب.
أما عن مكانة إدلب في الاستراتيجية التركية فقد عبّر عنها منذ ما يقار العام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقوله:” إنه لن يسمح بإقامة “ممر إرهابي يبدأ من عفرين ويمتد إلى البحر المتوسط”، في إشارة إلى منع إقامة كيان كردي على حدود تركيا الجنوبية مع سوريا. هذا يعني قطع الطريق أمام تمدد الكرد وتطلعهم للوصول إلى البحر المتوسط، فالاستراتيجية التركية في إدلب تتجسد في إقامة ممر يمتد من إدلب إلى إعزاز في حلبعبر ناحية جنديرس التابعة لعفرين، فضلا عن تطويق الأخيرة ووضعها تحت المراقبة التركية الحثيثة عبر نقاط عسكرية في إدلب. وترسيخ دور تركيا في شمالي سوريا وجعلها قوة مؤثرة أمنيا وسياسيا واقتصاديا، إذ إن المنطقة الممتدة من جرابلس على الفرات إلى إدلب -التي تشرف على الساحل السوري وتتصل جغرافياً بمحافظة حماة- ستصبح تحت التأثير التركي، ومثل هذا الأمر يعطي قوة دفع كبيرة للسياسة التركية في الأزمة السورية خلال مراحلها الممتدة.
أن تركيا -التي تحتضن قرابة ثلاثة ملايين لاجئ سوري- تخشى من خسارة إدلب ترك المجال للاعبين الآخرين (أي روسيا وإيران وحتى النظام السوري) للقيام بها باسم مكافحة التنظيمات الإرهابية. وهو ما قد يفتح الباب أمام نزوح أكثر من مليون شخص إلى تركيا، في حين ترى أن سيطرتها على إدلب سيفتح الباب أمام عودة النازحين السوريين إلى مناطقهم بعد تأمينها. مما تقدم يلاحظ أن الموقف التركي من العملية العسكرية المرتفبة في إدلب محكومة بالاعتبارات الإنسانية والإستراتيجية. فخسارة تركيا لإدلب قد يكون لها ارتدادت عكسية أمنية وإنسانية على الداخل التركي وهذا ما تحاول تركيا تجنبه قدر المستطاع. لأن انتصار روسيا في إدلب سيعني تقوية الدور الروسي والايراني وحزب الله اللبناني في سوريا في البيئة العربية والشرق أوسطية.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية