توفي روبرت غيلبين -أحد العلماء الواقعيين البارزين في الاقتصاد السياسي الدولي- في العشرين من يونيو/حزيران. عندما بدأ غيلبين حياته المهنية، كان مجال الاقتصاد السياسي الدولي -الذي يدرس كيفية تفاعل السياسة والاقتصاد في النظام العالمي- في طور النشوء. ساعد غيلبين في تعريف المجال وتحديده، كما أضحت رؤيته الواقعية إحدى العدسات الأساسية التي درس العلماء من خلالها هذا المجال منذ ذلك الحين. ساهم وضوح كتاباته ودقتها في جعل أفكاره في متناول شريحة أوسع. إضافة إلى ذلك، أدت عودة ظهور النزعة القومية وصعود الصين وصعود الزعماء الشعبويين في الديمقراطيات الصناعية المتقدمة إلى تجديد أهمية عمله.
بالنسبة لغيلبين، كانت الواقعية[1] تعني أن الدولة كانت الجهة الفاعلة الأساسية في السياسة والاقتصاد العالميين، وأن السلطة واستخدام القوة كانتا الأداتين الأساسيتين في القدرة السياسية على إدارة الدولة، وكانت الحرب هي الآلية الرئيسية للتغيير في الشؤون الدولية، وأن السياسة تتمحور حول الاستمرارية أكثر من التغيير. في كل من كتبه، طرح غيلبين هذه الرؤية للعالم؛ قارنها بالماركسية والليبرالية، وكلاهما يحددان عوامل وآليات السياسة في مواضع أخرى. بالنسبة للماركسية، الطبقات الاجتماعية هي العوامل والرأسمالية والنضال الطبقي هي الآليات المركزية للتغيير. أما بالنسبة لليبرالية، فإن عوامل التغيير هم الأفراد والسياسات الداخلية، في حين أن الأسواق والجهود المبذولة لتحقيق أقصى قدر من الرفاهية العالمية هي الآليات التي تقود هذا التغيير عبر التاريخ. افترضت واقعية غيلبين أن المحرك الأساسي للسياسة هو التنافس بين الدول التي تحاول تعظيم مصالحها الوطنية والارتقاء بها، والذي يتم في كثير من الأحيان باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها.
وقد دفعه هذا الرأي إلى التأكيد على العديد من ملامح الاقتصاد العالمي والنظام السياسي التي قلل من أهميتها علماء آخرون في الاقتصاد السياسي الدولي. على النقيض من الكثير من الأبحاث في الاقتصاد السياسي الدولي، جادل غيلبين بأنه لا يوجد أهمية كبيرة للترابط الاقتصادي أو العولمة وأن معظم الحكومات لم تكن مقيدة به، ويمكن للدول بالفعل استخدامه كمورد للتلاعب بالبلدان الأخرى التي كانت أكثر اعتماداً عليها. أشار إلى أن الترابط الاقتصادي قد غيّر السياسة قليلاً؛ كانت الدول لا تزال مهتمة أكثر بكثير بالتنافس على السلطة والثروة أكثر من اهتمامها بمتابعة الكفاءة الاقتصادية أو زيادة الرفاهية. كما لم يعتقد غيلبين أن التكنولوجيا قد غيّرت الجغرافيا السياسية، فعلى سبيل المثال، حتى الأسلحة النووية لم تكن في رأيه راديكالية بما فيه الكفاية لإنهاء احتمال نشوب حروب. رأى غيلبين أن القوة العسكرية هي السبب الأكبر للتغيّر السياسي والحرب بين القوى المهيمنة القائمة والقوى الصاعدة كمحرك للنظام العالمي. والجهات الفاعلة الرئيسية في السياسة العالمية هي الدول لأنها تسيطر على الأرض والقوة العسكرية؛ ويحدد التنافس فيما بينها -ولا سيما القوى العظمى- النظام العالمي.
أكدت رؤية غيلبين على أوجه الاستمرارية العميقة في السياسة عبر العصور؛ ولم يرَ النظام العالمي الليبرالي في القرن العشرين بأنه أعاد رسم السياسة الدولية. بدلاً من ذلك، كان جزءاً من نفس الدورة القديمة التي عادت إلى بداية تاريخ البشرية. وجادل غيلبين بأن الاقتصاد العالمي المفتوح والمزدهر والمستقر نسبياً الذي أوجد العولمة والترابط بعد الحرب العالمية الثانية قد شيدته الولايات المتحدة لمصالح أمنها القومي. لقد أقامت الولايات المتحدة المهيمنة النظام العالمي الليبرالي وضمنته بالقوة العسكرية الأمريكية. وتنبأ غيلبين بأن تراجع قوة الولايات المتحدة سيعيد بدء دورة التنافس والفوضى فيما تحاول القوى الصاعدة إعادة تشكيل النظام لمصلحتها الخاصة. في رأي غيلبين، كانت هذه العملية تنطوي دائماً على الحرب بين القوى المهيمنة القائمة والقوى الصاعدة الطامحة. لكنه أدرك أنه بما أن الأسلحة النووية ستجعل مثل هذه الحرب كارثية للغاية، فلن يكون من المحتمل أن تختار أي من الدول الصاعدة ولا حتى البلدان المتراجعة ذلك الطريق إذا تمكنت من تجنبه.
لم تكن رؤية غيلبين للمستقبل مشرقة؛ لقد توقع تراجع الولايات المتحدة ونهاية النظام الليبرالي الذي كانت تحميه. كان الانتقال إلى نظام عالمي جديد سيحدث، وتوقع أن يؤدي التحول إلى الفوضى والعنف وإثبات رؤيته. من المحتمل أن ينقسم النظام إلى كتل إقليمية، كل منها سيقع تحت تأثير أقوى دولة في المنطقة؛ يعني ذلك العودة إلى أنواع مجالات النفوذ السائدة في القرن التاسع عشر ووضع حد للعالم المعولم. وتنبأ غيلبين أن الانتقال سيؤدي إلى عودة القومية والاتجارية المركنتيلية والاقتصاد المغلق [2].
من بعض النواحي، تشبه رؤية غيلبين الواقعية للسياسة العالمية دور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. رأى غيلبين الولايات المتحدة كقوة متراجعة وأظهر أن الدول المتراجعة أمامها خيارات قليلة. في مواجهة أزمة مالية بسبب التزامات سياسية وعسكرية مفرطة في الإنفاق وفقدان المزايا الاقتصادية التنافسية، يجب أن تتراجع الدولة المهيمنة أو تجد موارد جديدة.تشمل عملية خفض النفقات أو التراجع الذي تعاني منه الدول المهيمنة التخلي عن الالتزامات الخارجية وسحب القوات المتمركزة في الخارج، فضلاً عن استيعاب القوى الصاعدة والتوافق معها. ينطوي البحث عن موارد جديدة على محاولة تجديد الاقتصاد المحلي وعرقلة صعود البلدان الأخرى.
يعكس شعار ترامب “اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” ومحاولاته للانسحاب من التزامات الولايات المتحدة في الخارج وتقليل حماية الحلفاء وأفكاره لاستيعاب روسيا رؤية واقعية لتراجع قوة مهيمنة. ومع أن غيلبين قد يتفق مع ترامب على ضرورة عكس مسار التراجع الأمريكي، إلا أنني أشك في أنه قد يتغاضى عن العديد من خيارات السياسة الخارجية التي يتبناها ترامب. وبصرف النظر عن سلوكه المهذب، فإن فهم غيلبين العميق للسياسة كان سيقوده إلى معارضة العديد من القرارات والإجراءات التي اتخذها ترامب، مثل استعداء الحلفاء وتقويض المؤسسات الدولية التي تقنن المزايا الأمريكية. في النهاية، اعتقد غيلبين أن كل من خفض النفقات والإصلاح كانا صعبين ومن غير المرجح أن ينجحا؛ كان يؤمن أن التراجع والصراع من السمات الحتمية للسياسات العالمية في الماضي والمستقبل.
—————————————————
هوامش
[1] الواقعية (Realism): هي حركة نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، وتعنى بتصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي، وتصوير الجوهر الداخلي للأشياء وليس الجنوح إلى الفانتازيا أو الرومانسية.
[2] الاتجارية (Mercantilism): أو مذهب التجاريين أو المركنتيلية، يعرّفها المعجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة بأنها “نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر”، وهي مذهب سياسي-اقتصادي ساد في أوروبا فيما بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر.
الجزيرة