مع إنجاز مجلس النواب العراقي استحقاقاته الدستورية عبر انتخاب رئيس له هو محمد الحلبوسي ونائبين للرئيس هما حسن الكعبي وبشير الحداد، السبت الماضي، تتّجه الأنظار إلى الكتل الرئيسية الكردية التي من المقرّر أن تعقد اجتماعاً جديداً مساء اليوم الثلاثاء للاتفاق على اسم مرشّحها لرئاسة الجمهورية العراقية، وهو منصب تشريفي لا يحمل له الدستور الجديد الذي كتب عقب الاحتلال الأميركي عام 2003، أي امتيازات أو صلاحيات تنفيذية. إذ تطرح داخل أروقة القيادة الكردية في أربيل والسليمانية منذ عدة أيم أسماء عدة لتولي منصب رئيس الجمهورية. وتواصل القوى الكردية اجتماعاتها للتوصّل إلى الاسم المناسب الذي سيمثّلها في بغداد على هذا الصعيد، ضمن ما اعتبر استحقاقاً كردياً داخل العملية السياسية العراقية المبنية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، بناءً على التوزيع الذي اعتمده الأميركيون عقب احتلالهم العراق عام 2003.
وأكّدت تسريبات من مصادر كردية في “الحزب الديمقراطي” على اطلاع بأجواء المفاوضات الجارية بين القوى الكردية بشأن منصب رئيس الجمهورية، أنّ أبرز الأسماء المرشحة لهذا المنصب هم “نائب رئيس الوزراء الأسبق برهم صالح، وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري، رئيس هيئة المستشارين في ديوان الرئاسة حالياً عبد اللطيف رشيد، رئيس وزراء إقليم كردستان حالياً نيجرفان البارزاني، القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني فاضل ميراني، والقيادي في الاتحاد الكردستاني في السليمانية ملا بختيار”. ويعد برهم صالح الاكثر حظَا في تولي منصب رئيس الجمهورية.
وفي المقابل ومع الأرجح أن عملية إطاحة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي قد “نجحت”. طهران أنجزت المهمة وواشنطن خذلته، على رغم أن الرجل دفع ثمن موقفه الذي أعلن فيه حياد حكومته حيال العقوبات التي باشرت الولايات المتحدة فرضها على إيران. بدأت تطرح داخل اروقة القوى السياسية العراقية في بغداد والنجف منذ أيام أسماء عدة مرشحة لتولي منصب رئاسة الحكومة الجديدة. وينظر إلى أصحاب تلك الأسماء، على أنهم مرشحو تسوية بين تحالفي “الفتح” بزعامة هادي العامري، و”سائرون” بزعامة مقتدى الصدر. وأبرز الأسماء المتداولة بقوة هي “اسم وزير النفط السابق والمنسحب منذ سنوات من المجلس الإسلامي الأعلى، عادل عبد المهدي، ورئيس جهاز الاستخبارات، مصطفى الكاظمي واسم القائد البارز في معركة الموصل، الفريق عبد الوهاب الساعدي، واسم زعيم الحشد الشعبي المقال، فالح الفياض، والوزير السابق وعضو مجلس الحكم المؤقت عام 2003 ــ 2004 علي عبد الأمير علاوي، المقيم منذ سنوات طويلة في لندن”.
فالقوى السياسية الشيعية دخلت مرحلة البحث عن رئيس وزراء غير حيدر العبادي، والخلاف انتقل الآن من موضوع التحالفات ومن هي الكتلة الأحق بتشكيل الحكومة إلى مسألة التوافق بين قائمتي “الفتح”، بزعامة هادي العامري، و”سائرون”، بزعامة مقتدى الصدر، على منصب رئيس الحكومة، لوجود قناعة بأن أي حكومة تولد من دون أحد الطرفين لن تصمد بضعة أشهر. وأكد أن الخلاف الحالي هو إصرار الصدر على تسمية رئيس وزراء شيعي مستقل لا يتبع لأي حزب أو كتلة، بمعنى الولاء أو الارتباط الحزبي، وأن يكون ذا خلفية اقتصادية، بينما يعارض المعسكر المقابل، ممثلاً بهادي العامري، هذا التوجه، ويعتبره بداية لانفراط الحكم الشيعي للعراق. وأشار إلى أن تهديد الصدر، الخميس الماضي، بالذهاب إلى المعارضة جاء بعد تلقيه رداً برفض مواصفاته لرئيس الوزراء من قبل الجانب الآخر، واصفاً الوضع الحالي بالمعقد والمفتوح على سيناريوهات كثيرة.
ما جرى في انتخابات رئاسة مجلس النواب العراقي السبت الماضي يؤكد أن ما يقترب هو تشكيل حكومة عراقية جديدة مشاكسة للتوجه الأميركي، فقد صعد محمد الحلبوسي، محافظ الأنبار السابق إلى رئاسة المجلس، بدعم كتلتي سائرون والفتح التي يقال أنها باتت الأقرب إلى التوافق على تشكيل الحكومة، ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبته إيران في تحقيق هذا التقارب. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل ستتمكن طهران من تحقيق الانتصار في جولة اختيار رئيس الوزراء العراقي؟
وإذا ما تمكنت طهران من ذلك فهذا مؤشر على ضعف الدور الأمريكي مقابل ما تمتلكه إيران من نفوذ واسع في البلاد، تعدّى إلى ما يمكن اعتباره انتداباً على بلاد الرافدين، ليس على مستوى الملفين السياسي أو الأمني، وإنما أيضاً وصل إلى المنظومة الاجتماعية والدينية، وحتى الثقافية. وهذا يفسر أن حلفاء واشنطن من الساسة السُنة والكرد بدوا غير طيّعين لضغوطها عليهم، ولديهم ثقة بوعود الإيرانيين لهم أكثر من الأميركيين. فانكفاء واشنطن صار جزءاً من الحسابات السياسية للجماعات العراقية. أقرب الأطراف إليها باشر ابتعاداً عنها. الأكراد، وهم حلفاء واشنطن التاريخيون في العراق، صاروا اليوم في طهران. السنة العرب، خصوم طهران المفترضون، وجدوا أنفسهم في العراء، فمدوا خيوطاً مع الخصم المذهبي والسياسي.
معظم السياسيين العراقيين شعروا هذه الأيام بضآلة التأثير الأميركي في مجريات المشهد العراقي، وبضخامة النفوذ الإيراني وتوسعه. وهذه الحقيقة تفرض على هؤلاء السياسيين، أو على من لم يباشر منهم سعياً لخطب ود الجنرال قاسم سليماني، أن يُسرع في الإقدام على هذه الخطوة. فما ما جرى بين العبادي وواشنطن، إذا ما نُظر إليه من مسافة تتيح إعادة تأليفه، مذهل فعلاً. واشنطن فاوضت على رأس من يُفترض بأنه ليس خصمها، وهي قبلت على ما يبدو بغيره رئيساً للحكومة. العبادي كان في نقطة الوسط بينها وبين طهران. الأسماء البديلة المتداولة كلها أقرب إلى طهران، مع تفاوت في مستويي القرب والبعد. فالح الفياض أقرب إلى طهران من عادل عبد المهدي، لكن الرجلين أقرب إليها من حيدر العبادي.
والسؤال الأهم: هل واشنطن مهتمة، هذه المرة، بأن تكون الحكومة العراقية الجديدة أقل انحيازاً وتبعية لإيران، ليس حرصا منها على مصالح العراق والعراقيين، وإنما لأنها تريد حكومة تستجيب لضغوطها وحصارها على إيران، وهل واشنطن لا تريد من العراق أن يكون حديقة خلفية لإيران؟، لكنها من جهة أخرى لا تُقدم على أي خطوة لمساعدة العراق في هذه المهمة. لكن، ما يحير فعلاً في هذا المشهد هو أن واشنطن لا تريد من العراق أن يكون بيد طهران، ولا تريده جسراً للالتفاف على عقوباتها طهران. لا تريد ذلك، لكنها لا تريد نجدة من يمكن أن ينسجم معها فيه. تماماً كما كانت حالها مع الأكراد حين خذلتهم في كركوك، ومع السنة العرب حين لم تحرك ساكناً حيال إحلال «الحشد الشعبي» محل «داعش» في مدنهم.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية