ترامب وفلسطين

ترامب وفلسطين

على مدى عقود، بدا أن معظم العالم يصدق تلك القصة الخيالية عن كون الولايات المتحدة وسيطاً نزيهاً، يعمل من أجل التوصل إلى حل للقضايا التي تعصف بإسرائيل وفلسطين. وقد رعت الولايات المتحدة جولات لا نهاية لها من المفاوضات، ظاهرياً للبحث عن وضع حد لهذه القضايا.

ولكن، قبل أن يشير كاتب هذه السطور إلى سخف هذا الاعتقاد، اسمحوا له بأن يعرض حقيقتين داعمتين لنفسيهما (كما قد يفكر المرء):

(1) لا حاجة إلى وسيط من الأساس. وكل المطلوب هو أن تلتزم إسرائيل بالقانون الدولي. وسوف يعني ذلك إزالة المستوطنين كافة غير القانونيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنهاء حصار قطاع غزة، والسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، والتوقف عن سرقة الموارد الطبيعية الفلسطينية (مثل المياه).

(2) يمكن للمفاوضات، حتى لو كانت مطلوبة -وهي بالتأكيد ليست كذلك- أن تنجح فقط عندما يكون لدى كل طرف شيء يريده الطرف الآخر، وهو ما يمكن يحققه فقط بالتنازل عن شيء لديه. وفي واقع الأمر، تأخذ إسرائيل كل شيء تريده من الفلسطينيين بحصانة تامة وإفلات من العواقب؛ وبذلك، لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات بين هذين الطرفين بهذه الصفة.

والآن، لنعُد إلى وهم الولايات المتحدة كوسيط محايد.

بالكاد يبدو سجل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في هذا الشأن شيئاً يستحق الثناء. أولاً، قام بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، في انتهاك واضح للقانون الدولي. وقد قوبلت هذه الخطوة بالإدانة من معظم أعضاء المجتمع الدولي في جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي عُقدت بعد وقت قصير من اتخاذها. وينظر الفلسطينيون إلى القدس باعتبارها موقع عاصمتهم المستقبلية، وكذلك يفعل معظم بقية العالم.

ثانياً، عين ترامب مسؤولاً عن وضع ما تدعى “صفقة القرن” في شخص صهرة الصهيوني غير الكفؤ، جاريد كوشنر، الذي هو صديق شخصي لرئيس الوزراء الإسرائيلي القاتل، بنيامين نتنياهو، والذي لديه استثمارات في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية. حياد؟ هل مِن أحد؟

ثالثاً، قام ترامب بقطع كل التمويل عن وكالات الأمم المتحدة التي تقوم بمساعدة اللاجئين الفلسطينيين.

رابعاً، قام بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الأميركية، واشنطن.

كل هذا يخدم بشكل جيد غاية إرضاء قاعدته من المسيحيين الأصوليين، الذين يعتقدون بأن الكتاب المقدس يجب أن يكون الدليل المرشد لعمل الحكومات -والأكثر غرابة، بأن الله هو الذي يقرر من هو الذي يجب أن يعيش هناك. كما يبدو أنهم يعتقدون بأن الله يغض النظر عن تعامل مجموعة من الناس مع أخرى بفظاظة؛ أليس هناك شيء في الوصايا العشر (لا بد وأنكم تتذكرون هذه الأشياء القديمة) عن حبك لجارك كما تحب نفسك؟ لا يبدو أن البربرية الوحشية التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين تفي بهذا المعيار.

يبدو أن هدف ترامب من كل ما يفعل هو جعل الأمور صعبة جداً على الفلسطينيين بحيث أنهم سيقبلون بأي صفقة، بغض النظر عن مدى سوئها بالنسبة إليهم، وبغض النظر عن كم تكون منحازة إلى جانب واحد هو إسرائيل. وعن طريق قطع كل التمويل الذي قد يساعد الفلسطينيين بأي طريقة، فإنه سيدفعهم إلى المجاعة. وهو يعتقد (عن خطاً قطعاً) بأن تصميمه على أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل سوف يجعلها كذلك حقاً.

ومع ذلك، فإنه غير مدرك -إلى حد لا يصدق- لحقيقة مقاومة ومرونة الشعب الفلسطيني. لقد مر الفلسطينيون بأكثر من 70 عاماً من القمع والاضطهاد على يد إسرائيل، ومن غياب العدالة المصادق عليه دولياً، لكنهم ما يزالون يقاومون. وهم مجردون من أي سلاح سوى الحجارة، لكنهم ما يزالون يناضلون من أجل حقوقهم. وهم يدفنون أحباءهم، الذين قتلهم الإسرائيليون؛ ويبكونهم قليلاً ثم يعودون إلى الشوارع ليقاوِموا. وهم يعانون من رعب نسف منازلهم ومساجدهم ومشافيهم ومدارسهم ومراكزهم الإعلامية -كله في انتهاك للقانون الدولي- ومع ذلك يواصلون الذهاب إلى المدارس، ويتزوجون، وينجبون الأطفال ويقاومون.

ربما يكون تحامل ترامب الواضح ضد الفلسطينيين مدعاة لدفع بقية العالم إلى التحرك. وما يزال عداؤه العلني تجاه الفلسطينيين وحقوقهم الإنسانية الأساسية قيد العرض الواضح أمام أنظار كل العالم ليراه -حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويترس، اقترح إرسال قوة مسلحة كأحد الاحتمالات لحماية الفلسطينيين من إسرائيل. لكن هذه الخطوة، للأسف، ستتطلب موافقة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وسوف تعمد الولايات المتحدة -لأسباب لا يمكن حتى مجرد تخيلها- إلى التصويت بالنقض على مثل هذا القرار. وسوف يفضل ترامب وحاشيته في الحكومة مشاهدة الدم الفلسطيني وهو يتدفق على فعل أي شيء لوقف إسرائيل عن سفكه.

مع ذلك، كانت هناك بعض العلامات الجيدة في الفترة الأخيرة. البارغواي، التي حذت حذو الخطوة الأميركية غير الشرعية بنقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس في أيار (مايو)، أصبح لديها الآن رئيس جديد، والذي يقوم بإعادة سفارة بلده إلى تل أبيب. وفي الرد على قطع الولايات المتحدة التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، سوف تقوم إحدى عشرة دولة (ألمانيا، وروسيا، وسويسرا، والسويد، والنرويج، وفنلندا، والدنمارك، والكويت، وهولندا، وبلجيكا وإيرلندا) بإرسال تبرعاتها للوكالة في وقت مبكر. وقد وعدت ألمانيا بأن تزيد بقدر يعتد به تمويلها للأونروا. وكل هذا، مقروناً بالتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أعلن تسمية ترامب للقدس عاصمة لإسرائيل عملاً “لاغياً وباطلاً” (دعمت القرار 128 دولة، وعارضته 9، وامتنعت البقية عن التصويت) يشير إلى أن فلسطين لم تُنسَ.

لكن هذا لا يكفي؛ فالشعب الفلسطيني يعاني من عقود من الاضطهاد والقمع، وقد تجاوزنا بكثير وقت قيام استدعاء المجتمع الدولي قواعد القانون الدولي، وتسمية إسرائيل دولة فصل عنصري وعزلها، كما حدث مع دولة جنوب أفريقيا قبل جيل من الآن. ويتم الآن فرض هذه العزلة على إسرائيل بشكل غير رسمي، وبنجاح متزايد، من جهة أفراد من خلال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. وعلى الدول التي لم تعترف بعد بفلسطين رسمياً أن تفعل ذلك؛ وقد مررت البعض منها، بما فيها إيرلندا وإنجلترا، قوانيناً غير ملزمة بالقيام بذلك. ويجب الآن تحويل هذه القرارات إلى قوانين ملزمة.

إذا ما ترك أمرها للولايات المتحدة، ستكون فلسطين في القريب مجرد ملاحظة في هوامش كتب التاريخ، في حين يعاني الفلسطينيون من معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل لا ترحب أو تقبل العرب أو بالأشخاص الذين ينحدرون من أصل أفريقي. وكان التسامح مع هذا الظلم الصارخ سلوكاً نمطياً معتاداً من طرف الولايات المتحدة، التي تقوم بتنصيب الزعماء المستبديين الوحشيين محل القادة المنتخبين ديمقراطياً، والحكومات اليسارية، وحيث يتعرض المواطنون من أصل أفريقي بشكل روتيني للقتل على يد رجال الشرطة البيض بشكل رئيسي. لكن غير المعتاد هو أن لا تقف الدول الأخرى، وأولئك الذين يعملون من أجل دعم المساواة وحقوق الإنسان في الوطن والخارج، إلى جانب الفلسطينيين. وسوف يحكم التاريخ على الأجيال بقسوة بسبب السماح باستمرار هذه الوحشينة، لكنه يمكن أن يسجل أن العدالة قد تحققت، في نهاية المطاف.

الغد