سوف تكون تركيا إردوغان الجديدة موجهة بالكامل لإدامة سلطة الرئيس. وفي هذا المسعى، ألغى مهندسوها معايير ومتطلبات الحكم الديمقراطي. وكانت تركيا أتاتورك قد مارست حكم الحزب الواحد من أجل التطوير التدريجي للحكم الديمقراطي، وكانت تهدف إلى وضع الدولة في التسلسل الهرمي للدول المتقدمة. واحتضنت البلاد التعددية إلى أقصى حد ممكن، وعززت الآليات لحوكمة مؤسسية قوية، وعملت على تمكين المشاركة العامة. لكن تركيا أردوغان تتبع مساراً مختلفاً. ويسمح لنا تعقب مسار أردوغان القائم على حكم الرجل الواحد غير المؤسسي بتصوُّر ما قد تبدو عليه تركيا بعد عقد من الآن.
لمحة عامة:
• تتعلق رؤية الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لـ”تركيا الجديدة” بتحويل البلد إلى واحد من تصميمه الخاص.
• لم تنجح عمليات التطهير التي أعقبت الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016 في إسكات نقاد أردوغان فحسب، وإنما أضرت أيضاً بقدرة تركيا على تعليم المبدعين والعلماء الذين يساعدون عادة في دعم الاقتصادات الرائدة.
• بعض التوقعات حول المكان الذي ستوجد فيه تركيا إردوغان خلال عشر سنوات أصبحت متحققة ومرئية مسبقاً، خاصة في المجال الاقتصادي المتعثر في البلاد.
* * *
بعد فوزه بفترته الرئاسية الثانية في حزيران (يونيو)، وتولِّي السلطات التنفيذية الكبيرة التي وافق عليها الناخبون في الاستفتاء الذي أجرِيَ في العام 2017، عمد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تعزيز ما كان يسعى إليه منذ فترة طويلة: إنشاء نظام سياسي جديد، والذي تتم صياغته بشكل متزايد على صورته هو. وسوف تكون “تركيا الجديدة”، كما يسميها أردوغان، بلداً يتجه سريعاً إلى أن يصبح انعزالياً وينظر إلى الداخل. ومن وجهة نظر أردوغان، خلقت النخبة المؤسّسة في تركيا من عشرينيات القرن العشرين دولةً، ومجتمعًا وثقافةً، وفقاً لتفضيلات رجل واحد هو مصطفى كمال أتاتورك. فلماذا لا يحاول هو أن يفعل الشيء نفسه ويشكّل تركيا جديدة حسب تفضيلاته؟ غير أن الاختلاف الحاسم بين رؤيتي أردوغان وأتاتورك واضح، وستكون له عواقب متباينة إلى حد كبير على المكانة الدولية للبلد والتنمية الاجتماعية فيه.
سوف تكون تركيا إردوغان الجديدة موجهة بالكامل لإدامة سلطة الرئيس. وفي هذا المسعى، ألغى مهندسوها معايير ومتطلبات الحكم الديمقراطي. وكانت تركيا أتاتورك قد مارست حكم الحزب الواحد من أجل التطوير التدريجي للحكم الديمقراطي، وكانت تهدف إلى وضع الدولة في التسلسل الهرمي للدول المتقدمة. واحتضنت البلاد التعددية إلى أقصى حد ممكن، وعززت الآليات لحوكمة مؤسسية قوية، وعملت على تمكين المشاركة العامة. لكن تركيا أردوغان تتبع مساراً مختلفاً. ويسمح لنا تعقب مسار أردوغان القائم على حكم الرجل الواحد غير المؤسسي بتصوُّر ما قد تبدو عليه تركيا بعد عقد من الآن.
عمليات التطهير وتجفيف الأدمغة
استهدفت عمليات التطهير التي أعقبت الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016 الجيش والبيروقراطية، ولكنها سرعان ما امتدت إلى قطاعات أخرى من المجتمع بينما تحركت الحكومة لإسكات أصوات منتقدي أردوغان. ولدى النظر في التعليم العالي، على سبيل المثال، أدى استبعاد الآلاف من الأكاديميين من الجامعات إلى هجرة الأدمغة، وسعى باحثون من جميع التخصصات إلى العمل خارج تركيا، حيث تحظى الحريات الأكاديمية بقدر أكبر من الاعتبار. وقد امتد التدفق في اتجاه الخارج إلى ما هو أبعد من التعليم العالي. ففي العام 2017-18 وحده، سعى أكثر من 250 ألف مواطن تركي إلى الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، وسعى نحو 20.000 إلى الإقامة في المملكة المتحدة.
كان أحد أهداف أردوغان المعلنة بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية في العام 2023 هو جعل البلد من بين أكبر 10 اقتصادات عالمية. ومن الصعب أن نرى كيف ستحقق تركيا هذا الهدف إذا تم طرد أفضل عقولها إلى خارج البلاد واستبدالها بالمعلمين المعيَّنين في المقام الأول بسبب ولائهم لإردوغان. وفي غضون عقد من الزمن، من المرجح أن تفتقر تركيا إلى القدرة الأكاديمية اللازمة لتعليم وتطوير أجيال جديدة من المبتكرين والعلماء الذين يساعدون في دعم الاقتصادات ذات القيمة المضافة. وبالقدر الذي يخص الذين يغادرون من أجل الحصول على شهادات في الخارج، فمن المحتمل أن تنخفض لديهم الرغبة في العودة والعمل في تركيا بشكل كبير.
لعل الأمر الأكثر إشكالية هو أن تركيا قطعت شوطاً طويلاً في اتجاه تأسيس نظام تعليم أساسي يتجاهل التحقيق النقدي. ومنذ العام 2016، كف المنهاج الوطني المستخدم في نظام التعليم الأساسي للدولة عن تدريس نظرية التطور، كمثال واحد فقط على التغيرات الجارية، كما تمتلئ المناهج الناشئة في تركيا الجديدة بالإشارات الواضحة إلى الأدوار الجندرية المحددة. وعلاوة على ذلك، تجري دعوة الطلاب إلى احترام الدولة والسلطة أولاً وقبل كل شيء. وفي غضون عقد من الآن، يرجح أن يؤدي هذا النوع من التلاعب في نظام التعليم إلى خلق الجيل الأول من أبناء البلد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، من الذين تم تعليمهم الشك في التفكير العلمي وفي الأجانب، والذين يتطلعون إلى سلطة أردوغان وممثليه لتحدد لهم ما هو الصواب والخطأ.
سوف تعمل وسائل الإعلام على إدامة هذا التحول، حيث سيتم منع القراء والمشاهدين من الوصول إلى مصادر المعلومات المستقلة والنقدية. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يخلو محتوى التلفزيون والصحف بشكل متزايد من التأثيرات الدولية، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية، مما يساعد على تعزيز وإدامة مجتمع منعزل ومغلق.
أين هو المستقبل الآن
أصبحت بعض التوقعات المذكورة أعلاه متحققة ومرئية مُسبقا في جميع أنحاء تركيا، خاصة في الساحة الاقتصادية للبلاد. ويلقي أردوغان باللوم في تراجع الليرة التركية على “المضاربين” و”المكتنزين” للعملة الصعبة، ويقول أن الحل هو التوقف عن شراء الدولار واليورو واستخدام العملة الوطنية فقط. وتلقى كلماته صدى لدى مؤيديه، لكنها تترك الخبراء وهم يتساءلون عما إذا كان يفهم كيف يمكن استخدام أسعار الفائدة للسيطرة على معدل التضخم الذي تجاوز 25 % في الفترة الأخيرة. وفي غضون ذلك، دعا صهر أردوغان، بيرات البيرق، المسؤول بصفته وزيرا للمالية عن الإشراف على الاقتصاد، دعا الباعة إلى عدم رفع أسعارهم؛ كما دعا أجهزة إنفاذ القانون والمستهلكين إلى الإبلاغ عن “زيادات الأسعار الاعتباطية” التي قد يضعها هؤلاء الباعة.
لقد تزعزع استقرار الاقتصاد التركي، ولكن، كذلك فعل المجتمع التركي والمبادئ الأساسية التي عززته. ويساعد المجتمع الذي ينأى بنفسه عن الخبرة ويشكك فيها في خلق بيئة تكون مواتية للحكم الاستبدادي، والتي تفيد القلة فقط وتضمن استمرارية أردوغان. وبينما يتوقف أفراد الجمهور عن طرح الأسئلة الصعبة ويتخلون عن الحاجة إلى التغيير، فإنهم سيرون في زعيمهم وحده الإجابة الوحيدة عن مشاكل البلد. وعلى الرغم من أن قلة من الناس في تركيا أصبحوا يقبلون لهذا الاتجاه في المقاربة، فقد البلد أصبح يذكِّر بعض المراقبين بشكل متزايد بالأنظمة الاستبدادية في أوروبا الشرقية في حقبة الحرب الباردة. وبالنظر إلى المسار الحالي لتركيا، فلن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ في عرض المزيد من خصائص تلك الدول.
الغد