نظرة في سياسة ترامب الخارجية

نظرة في سياسة ترامب الخارجية

كان المستبدون المتشجعون الذين أصبحوا يتصرفون الآن بحصانة أكثر من السابق نتيجة منطقية ومأساوية لسياسة “أميركا أولاً”. ووفق أي معيار مسؤول -وبنواتج حقيقية قابلة للقياس- فإن وضع رهانات كبيرة على حلفاء أوتوقراطيين معينين في الشرق الأوسط كان خطوة خاطئة بشكل فظيع، لكنه لا يقوض التساوق في نظرة عالمية ترى قليلاً من المتسع للغضب الأخلاقي الموجه نحو الأصدقاء، طالما ظل هؤلاء الأصدقاء يخدمون فهماً أميركياً ضيق التعريف للمصالح الأميركية.
*   *   *
لدى تأمل السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامي، يمكن التفكير في شيئين في الوقت نفسه: أن السياسة الخارجية للرئيس الأميركي كانت “سيئة”، وهو ما يعتقد الكثيرون أنها كانته؛ أو أن سياسته عرضت نوعاً من البديل المتساوق للكيفية التي ينبغي أن تضبط بها الولايات المتحدة سلوكها خارج حدودها. ويقترح هذا التصور الأخير أن التصرفات الطاردة العارضة وغير الاعتيادية التي يمارسها، محلياً وفي السياسة الخارجية، تفتقر إلى شيء مهم.
مقاربة مولعة بالتفاخُر
باعتباري شخصاً يؤمن بأن المثُل الأميركية مهمة في الخارج –خاصة وأن دعم حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج هو الطريقة الوحيدة لتعزيز مصالحنا على المدى الطويل- فإنني لن أستطيع، وفق أي سيناريو يمكن تصوره، أن أدعم سياسة ترامب الخارجية. فهو يتبنى نظرة عالمية مختلفة، بفرضيات ومنطلقات مختلفة. ومع ذلك، من منظور قومي، تعرض عقيدة ترامب قدراً يعتد به من الجاذبية. إنها تؤكد على -بل إنها تمجد- مفهوم “السيادة” الأميركية، القائم على فهم ضيق مختزَل للمصالح الاقتصادية والأمنية الأميركية. وتنجم عن ذلك سياسة خارجية معاملاتية بوضوح، حيث يسعى الرئيس إلى تحقيق هذه المصالح مع القليل من الاعتبار للأعراف والقواعد والمؤسسات الدولية. ووفق هذا التصور، لا يُعطى غير المواطنين في الولايات المتحدة الكثير من الاعتبار، وتُفهم القيم والمثُل على أنها ترف في أفضل الأحوال، وعلى أنها عقبات تقف أمام تحقيق المصالح الوطنية في أسوئها. ومن الناحية الأسلوبية، فإن عقيدة ترامب هي واحدة مقتصِدة، غير عاطفية، وتصادمية -مقرونة بنزعة تفاخرية تقريباً.
كما هو الحال مع معظم العقائد، لا تتطابق السياسة كثيراً مع الخطابة. لكن بصمة ترامب على السياسة الخارجية الأميركية سوف تستمر في أن تكون مهمة من حيث محاولتها الواضحة والطموحة لوضع مجموعة من الخطوط الإرشادية لأولئك الذين يودون أن يحملوا عباءة “أميركا أولاً” إلى المستقبل. وبعبارات أخرى، تمكَّن ترامب من تقديم مجموعة من الأفكار التي تتمتع بقوتها البنيوية الخاصة، حتى لو أن إدارته لا تعكس دائماً هذه الأفكار في السياسة الخارجية اليومية. وهذه، إلى جانب التحولات الهائلة في السياسات المحلية، يمكن أن تضمن أن يتم تذكر ترامب كواحد من الرؤساء الأكثر تساوقاً من الناحية المنطقة في الحقبة الحديثة.
على سبيل المثال، كان خطاب ترامب يوم 25 أيلول (سبتمبر) في الجمعية العامة للأمم المتحدة خارجاً على إجماع واشنطن الحزبي بقوة، والذي أكد قيادة الولايات المتحدة في الحفاظ على “النظام الدولي الليبرالي”، والذي قدم، على أقل تقدير، دفعة خطابية لتعزيز الديمقراطية وترويجها في الخارج. وباستثناء تلك الأماكن حيث تستطيع واشنطن استخدام حقوق الإنسان كهراوة ضد أعدائها، فإن ترامب لا يعرض أي اهتمام خاص بالسلوك الداخلي للبلدان الأخرى. وينسجم هذا مع ما أسميه “السيادة الثقافية”، التي شرحها الرئيس في خطابه:
“كل واحد منا هنا اليوم هو مبعوث لثقافة متميزة، وتاريخ غني، وشعب تربطه معاً روابط الذاكرة، والتقاليد، والقيم التي تجعل أوطاننا ليست كأي شيء آخر على وجه الأرض… إنني أقدر حق كل أمة في هذه القاعة في اتباع عاداتها ومعتقداتها وتقاليدها. والولايات المتحدة لن تملي عليكم كيف تعيشون أو تعملون أو تعبدون”.
لكن بقية الخطاب مالت إلى القتامة والصدامية، وتجنبت حتى مجرد التظاهر بمظهر المثالية في السياسة الخارجية. وكان الخطاب مخيفاً في نفوره المباشر والصريح من روح التسوية والتعاون. وبطبيعة الحال، كان بعض هذا تظاهراً، لكن بعضه الآخر حقيقي تماماً. في الشرق الأوسط، كان سلف أوباما، الرئيس باراك أوباما، قد أمل بتحقيق قدر أقل من الصراع، لكنه كشف عن القليل من الاهتمام باستثمار الموارد المطلوبة لتحقيق تلك النتيجة. (كانت المبادرة الوحيدة التي بُذلت عليها طاقة تمكن ملاحظتها، الاتفاق الإيراني، قد تأسست على فرضيات ليست في محلها، كما أوضحتُ في مكان آخر). ولا يمكن أن يكون ترامب أكثر اختلافاً عن أوباما، في كل من الغرائز والنوايا. ومع ذلك، أخذ ترامب فك الارتباط المدروس الذي تبناه أوباما إلى مستوى مختلف -وربما منطقي: اللامبالاة غير المعتذِرة.
اللامبالاة في السلوك
ثمة تعبير واضح عن هذا الاتجاه، هو ملاحظات ترامب المبكرة على العواقب التي يمكن أن تواجهها المملكة العربية السعودية بسبب اغتيال الصحفي جمال خاشقجي. وفي تلك الملاحظات، فكر ترامب أولاً في الطبيعة المعاملاتية للعلاقة بين واشنطن والرياض: “لا أريد أن أوقف المقادير الهائلة من الأموال التي يتم صبها في بلدنا -إنني أعرف أنهم يتحدثون عن أنواع مختلفة من العقوبات، لكنهم ينفقون 110 مليارات دولار على المعدات العسكرية، وعلى أمور تخلق فرص العمل، مثل الوظائف وغيرها، في هذا البلد”. كما أشار ترامب أيضاً إلى أن خاشقجي لم يكن مواطناً أميركياً (كان مقيماً في فرجينيا)، ملمحاً إلى تمييز حاد بين المواطنيين واللا-مواطنين، والذي ترتكز عليه نظرة ترامب العالمية الصارخة والمفرطة في الواقعية.  ووفق هذه القراءة، لو كان خاشقجي مواطناً أميركياً، لكان ذلك قد اندرج ضمن مفهوم السيادة الأميركية؛ لكن كونه غير مواطن يضع الحادثة خارج سياق “أميركا أولاً”. ولذلك هدد ترامب بـ”عقاب شديد”، لكنه قاوم اتخاذ أي عمل يمكن أن يؤثر على مبيعات الأسلحة.
سواء كان ذلك عادلاً أم غير ذلك، فإن تصوُّر أن استجابة ترامب ستكون ضعيفة بشكل عام ضد انتهاكات حقوق الإنسان سوف تحدد المخاطر التي سيكون الحلفاء مستعدين للإقدام عليها. وهكذا، كان المستبدون المتشجعون الذين أصبحوا يتصرفون الآن بحصانة أكثر من السابق نتيجة منطقية ومأساوية لسياسة “أميركا أولاً”. ووفق أي معيار مسؤول -وبنواتج حقيقية قابلة للقياس- فإن وضع رهانات كبيرة على حلفاء أوتوقراطيين معينين في الشرق الأوسط كان خطوة خاطئة بشكل فظيع، لكنه لا يقوض التساوق في نظرة عالمية ترى قليلاً من المتسع للغضب الأخلاقي الموجه نحو الأصدقاء، طالما ظل هؤلاء الأصدقاء يخدمون فهماً أميركياً ضيق التعريف للمصالح الأميركية. (أنا أستخدم عن قصد كلمة “أصدقاء” بدلاً من “حلفاء”، بما أن كندا، حسب نظرة ترامب العالمية، هي حليف أكثر من كونها صديقاً).
هناك، إذن، منهج في ما يبدو للكثيرين إما جنوناً أو حماقة، أو كليهما معماً. لكن امتلاك منهج وعرض قدر أكبر -وليس أقل- من التساوق ليس شيئاً جيداً بالضرورة.