“أحببت المدرسة كثيرا حتى أن عطلة نهاية الأسبوع أصبحت تؤرقني، هنا يشعرك المدير أنك بين عائلتك”. بهذه الكلمات المقتضبة يصفه معمر سعيد (44 عاما)، وهو معلم اللغة العربية في المدرسة.
يقول معمر للجزيرة نت إنه يقطع مسافة أربعين كيلومترا يوميا من وإلى بيته بلا كلل أو ملل مضيفا “لولا جمال لما كنا مربين حقيقيين. تعلمنا منه أن التربية تبدأ من الداخل”.
كعادته يأتي “جمال فارس” (45 عاما) مبكرا كل يوم حاملا حقيبته المتخمة بالأوراق قاصدا مدرسة “المسجد الأقصى” الابتدائية بقرية روكان النائية بمحاذاة الحدود الإدارية مع مدينة الفلوجة التي يعمل مديرا فيها منذ ثلاث سنوات خلت، ليكون أول من يفتتح باب مدرسته الرئيس مرحبا بزواره الصغار.
عُرف على مدى 24 عاما من مسيرته التربوية بابتسامته الودودة ودماثة خلقه، يتعامل مع طاقم إدارته التسعة كأنه أحدهم وليس مديرا لهم، يحفزهم كثيرا و”يحثهم أن يكونوا آباء لا معلمين”، كما وصفه للجزيرة نت عبد فارس (42 عاما) أحد معلمي المدرسة.
ويضيف فارس “يتابع أدق التفاصيل بعينين ثاقبتين، لا تجده في مكتبه إلا قليلا. تراه أغلب الأوقات متجولا في فناء المدرسة تلقف يداه ما تجده ملقى على الأرض من مخلفات الطلبة بنكران للذات وروح أبوية”.
يتفقد جمال تلامذته واحدا واحدا، ويبحث في أسباب غيابهم، ويترجل إلى بعض من بيوتهم قريبة من المدرسة ليأتي بمن تخلفوا عن الحضور مهما كانت الأسباب.
يقول ساجت محمد (51 عاما)، وهو أب لثلاثة أبناء، للجزيرة نت “كنت أعاني كثيرا لإقناع ابني محمد بالذهاب مع إخوته إلى المدرسة غير أن الأستاذ جمال فعل ذلك في إحدى زياراته لنا فعاد وبصحبته محمد بعد أن جلب له هدية صغيرة”.
معاناة وتحد
في قرية تسمى “طاحوس الأولى” في قضاء “أبو غريب” (غرب بغداد)، يقطن “جمال” مع زوجته وأبنائه الستة في بيت متهالك ضيق يغطيه سقف من جذوع النخل والطين يكشف ما تعانيه تلك الأسرة من ضيق.
فجمال هو أحد النازحين الفارين من سطوة الموت بعد مغادرته محافظة الأنبار إبان سيطرة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية عليها عام 2015. لكن أسرته ما كانت لتستسلم.
“شروق” البنت البكر أكملت تعليمها الثانوي وحجزت لنفسها مقعدا في كلية العلوم بجامعة ابن الهيثم. “يوسف” الابن الثاني بالصف السادس الإعدادي المتميزين وكذا بقية الأولاد، ففي ضنك العيش أحيانا للعارفين فوائد.
لعل الخروج بما يمكن حمله من زاد ومتاع لعائلة لم تعتد هذا النوع من المغامرات والمخاطر، لم يكن سهلا، لكنها أُكرهت عليه في ظل معارك حامية الوطيس.
يقول جمال للجزيرة نت “كنت أحمل إحدى بناتي بين ذراعي عند النزوح، وأستنهض همم البقية. تمنيت لو استطعت حمل أولادي جميعا لعلي أقيهم من شر متربص بهم”.
بعد وصول العائلة المنهكة إلى مكان سكنها الجديد، بدأت رحلة أخرى لإيجاد المأوى والتأقلم مع مكب النفايات الذي أصبح مستقرا وملاذا فيما بعد، مكان لا ينافسه عليه أحد، حيث روائح القمامة وانبعاثاتها تخنق الأنفاس.
قائمقام أبو غريب عثمان المعاضيدي أكد في حديث خص به الجزيرة نت “خاطبنا أمانة بغداد بعدم قانونية طمرها النفايات في أرض آهلة بالسكان وفعلا تم إيقاف العمل في ذلك الموقع، غير أن مخلفاته البيئية والصحية ما زالت باقية، وأكثر من يعاني منها سكان المنازل القريبة”.
ورغم عتمة الأفق، ثمة بصيص للنور لدى “جمال”، وذلك ما حدا به أن يكون في قافلة المتميزين.
مشكلات المعلم
ما يرى بالعين المجردة من احتياجات أساسية للمدارس في ظل نقص المدارس نفسها، واكتظاظ الطلبة بما يربو عن سبعين تلميذا في الحصة الواحدة، وازدواجية الدوام، ونقص في المناهج والكتب، يحتم على المسؤولين مراجعة للحسابات ووقفة لتصويب المسار فالتعليم قضية جيل.
وعلى هامش الحديث عن معاناة المعلم، يقول مدير تربية قضاء أبو غريب حسين فليح للجزيرة نت “نحن نعمل لدعم المعلم نفسيا وعلميا لكن ظرف البلد قد يجبرنا على التقصير أحيانا”.
فإن كانت الجهة التربوية الرسمية تعترف ببعض القصور فمن يعالج المشكلات إذن؟ بل من يصنع الحضارة ويبني العقول غير أولئك المقصر بحقهم أصلا؟
فلا نهضة للأمم إلا بجودة التعليم وذلك ما دأب عليه “جمال” منذ زمن.
المصدر : الجزيرة