لم يكن يدر في خلد الساسة الإيرانيون- في ذات يوم- بأن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في 9 نيسان/إبريل عام 2003م، سيكون بمثابة هدية إستراتيجية تقدمها واشنطن لطهران، والأخيرة قبلت تلك الهدية وثمنتها أيما ثمن، فمنذ ذلك التاريخ، وإيران توظف كل أدواتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية لإبقاء العراق تحت نفوذها، وهي بذلك لن تتردد في اللجوء إلى أي أسلوب لدوام ذلك النفوذ.
فقد كشف تقرير بريطاني، بشأن اعتماد إيران على فرق اغتيالات لتصفية خصومها ومنتقديها في العراق، عن الحاجة المتزايدة لطهران، للاعتماد على أساليب أكثر خشونة للحفاظ على نفوذها فيه، والذي بدأ في الانكماش مع توسّع النقمة الشعبية على رموز وقادة العملية السياسية وغالبيتهم العظمى من الموالين لإيران، وذلك بعد أن أيقن الجميع من فشل تلك العملية، وبعد أن لمس العراقيون نتائجها الكارثية على مختلف مظاهر حياتهم.ونقلت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية، الجمعة -الفائت- في تقرير لمحرر الشؤون الدفاعية كون كوغلن، عن مسؤولين أمنيين بريطانيين قولهم إن طهران تستخدم فرق اغتيالات لإسكات منتقديها، وسط ما وصفته بمحاولات إيرانية للتدخل في شؤون الحكومة العراقية الجديدة.
ونقلت صحيفة «ديلي تلغراف» عن المسؤولين الأمنيين البريطانيين أنه جرى نشر «فرق الاغتيالات» المذكورة في أعقاب الانتخابات العامة العراقية التي أجريت في مايو (أيار) الماضي، عندما أُعيقت المحاولات الإيرانية المستمرة للسيطرة على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة بسبب فشل المرشحين الموالين لطهران في الاستحواذ على نسبة كافية من أصوات الناخبين.
وحسب الصحيفة، كانت إيران، خلال الحملة الانتخابية العراقية، تدعم أحد رؤساء وزراء العراق السابقين، الذي كان ارتباطه الوثيق مع دوائر الحكم في طهران من أبرز العوامل التي أسفرت عن عزله من منصبه في الحكومة العراقية. ونقلت الصحيفة عن المسؤولين أن الجانب الإيراني من رهانه الانتخابي بإسناده لمرشح آخر يحظى بالدعم الإيراني هو قائد أحد فصائل الحشد الشعبي، على الرغم من عدم حصول أي منهما على الأصوات الكافية التي تخول لأحدهما حق تشكيل الحكومة. ويقول بعض المسؤولين من الذين يوفرون الخدمات الاستشارية العسكرية والدعم والتدريب للقوات المسلحة العراقية، إن إيران ردت على تلك الإخفاقات بإرسال عدد من فرق الاغتيالات التابعة لـ«فيلق القدس»، بغية إسكات الأصوات العراقية التي تنتقد محاولات التدخل الإيرانية في المصير السياسي العراقي.
ويقول كوغلين في تقريره، إن إحدى أبرز الضحايا لهذه الفرق حتى الآن كان عادل شاكر التميمي، الحليف المقرب لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، والذي اغتالته قوة القدس في أيلول سبتمبر الماضي، بحسب التقرير. والتميمي البالغ من العمر 46 عاما، سياسي شيعي يحمل جنسية مزدوجة عراقية كندية، ويصفه التقرير بأنه كان يشارك في محاولات بغداد لرأب الصدع بين السنّة والشيعة في العراق، كما عمل مبعوثا غير رسمي في مجال استعادة وتحسين العلاقات مع دول الجوار كالأردن والمملكة العربية السعودية. ويشير التقرير إلى أنّ فرق الاغتيالات الإيرانية استهدفت خصوما من مختلف تشكيلات الطيف السياسي في العراق، ويضرب مثلا بضحية أخرى لهذه الفرق، وهو شوقي الحداد، ويصفه بأنه مقرب من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي كان يتلقى دعم طهران لكنه في الفترة الأخيرة اتخذ نهجا أكثر وطنية، بحسب تقرير الصحيفة. وقُتل في تموز/ يوليو في أعقاب اتهامه لإيران بالتدخل لتزوير الانتخابات العراقية.
وحسب مسؤول أمني بريطاني كبير، أدى فشل المرشحين السياسيين المؤيدين من إيران في انتخابات مايو الماضي العراقية في حيازة ما يكفي من الأصوات إلى فوز رئيس الوزراء الحالي عبد المهدي، وهو السياسي البراغماتي، الذي يريد الحد من التدخلات الإيرانية في بلاده. وقال الجنرال مارك كارلتون سميث، قائد الجيش البريطاني، للصحيفة، إنه يعتبر النفوذ الإيراني الخبيث في الشأن العراقي أحد مواطن التهديد الرئيسية التي تواجه العالم اليوم.
وإلى جانب إرسال فرق الاغتيالات إلى العراق، يقول المسؤولون الأمنيون إن قوات «فيلق القدس» بقيادة الجنرال قاسم سليماني تسعى كذلك إلى تعزيز مواقعها العسكرية في البلاد، فإنه من خلال استغلال الميليشيات الشيعية على غرار كتائب «حزب الله» في لبنان، يعمل الجانب الإيراني على تهريب الأسلحة إلى داخل العراق لاستخدامها ضد الأهداف الأميركية والغربية الأخرى. ووجهت الاتهامات في أيلول/ سبتمبر الماضي إلى الميليشيات الموالية لإيران بشن الهجمات ضد الأهداف الأميركية في العراق، بما في ذلك السفارة الأميركية في بغداد وقنصليتها في البصرة.
لذلك فإن المعلومات، التي تضمنها تقرير صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية عن نشر طهران فرق اغتيالات تستهدف إسكات منتقديها في العراق، لم تكن مفاجئة للعراقيين ولا غريبة على السياسة الإيرانية، التي يعرف العراقيون أنها تستهدف محو كل ما هو عربي في العراق ابتداء من مناوئيها ووصولاً إلى الصامتين حيال ممارساتها، ولو أن محرر الشؤون الدفاعية في الصحيفة البريطانية المذكورة (كون كوغلن) سأل أي عراقي لعرف أن ما كشفه له المسؤولون الأمنيون البريطانيون له سوابق في التاريخ، وأن ماكنة الموت الإيرانية لم تتوقف عن نهجها الإقصائي، الذي تمارسه في بلاد الرافدين، منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وأن ما يحدث من تصفيات جسدية واغتيالات، اليوم، ليس سوى حلقة من حلقات تثبيت نفوذها في العراق.
خلاصة القول، منذ سنة 2003 اعتمدت طهران على قادة أحزاب وميليشيات نافذين لضمان حضور قوي لها في العراق وللمشاركة عن طريقهم في صناعة القرار العراقي وتوجيه السياسات الكبرى للبلد وجهة ملائمة لمصالحها، لكنّ تسويق هؤلاء للجمهور العريض لم يعد متاحا نظرا لما تلبّس بهم من شبهات فساد، وأيضا لفشلهم في إدارة الدولة التي سجّلت تراجعات هائلة في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.وأصبحت إيران تلمس تزايد النقمة عليها وعلى كلّ ما يمتّ لها بصلة في العراق، في الشارع خلال التظاهرات حيث تُرفع شعارات مضادّة للسياسات الإيرانية في البلد.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية