صنفت دراسات حديثة مشكلة الأمن الغذائي كإحدى أكبر المشكلات التي تواجه الدولة في مصر. ومع الارتفاع المنتظر في عدد السكان يتوقع أن تتضاعف هذه المشكلة المزمنة الأمر الذي يستوجب من الحكومة ضرورة البحث عن حلول، اقترح أحدها الباحث المصري فاروق الباز منذ سنوات، وهو مشروع ممر التنمية لإعمار 10 ملايين فدان من الصحراء، إلا أن هذا المشروع الذي وصفه في حواره مع “العرب” بأنه وسيلة لتأمين مستقبل الأجيال القادمة، ظل، منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، وصولا إلى الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، يطرح على طاولة النقاش ثم يؤجل نظرا لتعقيداته وأيضا، لأن الأنظمة تريد الكسب السريع، ومشاريعها القومية ليست سوى مسكنات ولا ترقى إلى مستوى العوائد ذات الأهمية الحيوية طويلة المدى. ليكون الباز في النهاية نموذجا للباحثين الذين يدفعون ثمن نجاحهم في الخارج، حيث عادة ما يكون رفض المشروع مصحوبا بحملات تربط بين عمله في وكالة ناسا، وبين نصائحه للحكومات المصرية المتعاقبة.
القاهرة – تتطلع الدولة المصرية، منذ عقود، إلى رسم بقع خضراء في وسط الصحراء القاحلة، وتحويلها إلى مناطق شبيهة بدلتا النيل، حيث الحياة المستمدة من المياه ومن الأراضي الصالحة للزراعة. لكن هذه المنطقة اليوم تتراجع، فيما تتفاقم مشكلة الأمن الغذائي في مصر، التي كانت وفق تعبير العالم المصري، فاروق الباز، “سلة غلال الدنيا”، لكنها لم تعد كذلك اليوم، بل إن الجوع يتهددها.
وأعرب الباز، وهو خبير دولي في علوم الفضاء ومدير مركز الاستشعار عن بعد بجامعة بوسطن الأميركية السابق، وعضو المجلس الاستشاري العلمي للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في حوار مع “العرب”، عن تعجّبه “على حال مصر التي كانت سلة غلال الدنيا على مدى العصور القديمة وحتى فترة طويلة من عصرها الحديث، وأصبحت تقترض من أجل رغيف الخبز”.
وتحدث الباز عن محاولات تعمير الصحراء وحروب الخروج من الوادي الضيق إلى أفق الصحراء الفسيح، مشيرا إلى أنه يجاهد من منذ خمسة عقود متواصلة من أجل مشروع ممر التنمية، بهدف كسر الحاجز النفسي بين المصريين والمسؤولين السياسيين والصحراء.
تقوم فكرة ممر التنمية على حفر طريق مواز لنهر النيل في قلب الصحراء الغربية بطول 1200 كيلومتر، بدءا من مدينة العلمين على ساحل البحر المتوسط في شمال البلاد وحتى أسوان جنوبا، وتربطه ممرات فرعية عرضية بوادي النيل يصل عددها إلى نحو 12 ممرا مع المدن التي تقع على ضفاف النيل، وتربط الصحراء بالنيل، وتتم على جانبيه تنمية عمرانية متكاملة، صناعية وزراعية وسياحية.
المصريون القدامى قصدوا الدلتا القديمة التي تحولت إلى صحراء حاليا، لأنهم كانوا يبحثون عن مواطن القوة، أما المصري الحديث، فليس لديه الصبر والجد لتعمير الدلتا القديمة رغم أنها تحمل الخير والنماء
وبيّن فاروق الباز أن المشروع بدأ في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات عام 1973، عندما تحاور معه وأبدى رغبته في عمل تنمية تستهدف تعمير الصحراء، حيث كان مهموما بالزيادة السكانية، وبدأ بدراسة الصحراء الغربية وقام بتصويرها من الفضاء.
وظل التطلع إلى الصحراء لمحاولة زراعة الأمل في أراضيها الواسعة يطرح مع كل دراسة وحديث عن النمو الديموغرافي وأزمة الغذاء والمياه في مصر. ويتزايد معدل سكان البلاد سنويا بنحو 2.5 مليون نسمة، بمعنى أن السنوات العشر المقبلة ستشهد زيادة بنحو 25 مليون نسمة، ما يحتاج المزيد من الخطط التنموية لاستيعاب الانفجار السكاني بكل متطلباته.
ولم تتحمل الدولة المصرية تكاليف إعداد دراسة ممر التنمية، حيث كان الباز، عند طرحها، يعمل في وكالة ناسا الأميركية، وخلال تلك الفترة كان يعد مشروعا عن كوكب “أبوللو” ويحلل الصور الفضائية للقمر لاختبار مكان هبوط المركبة الفضائية التي ينتوي إرسالها للكوكب، حتى لا تتعرض لمشكلات.
وأوضح الباز أنه باستخدام تقنية التصوير الفضائي للأرض لاكتشاف طبيعتها الجيولوجية، قام مع فريق بحثي من جامعة عين شمس بمصر بدراسة مفصلة للصحراء الغربية، وبتمويل كامل من وكالة ناسا، التي رصدت للمشروع نحو 250 ألف دولار لإعداد الدراسات، وتم شراء المعدات والسيارات وبدأ العمل في قلب الصحراء الغربية.
خلال رحلة الصحراء، اكتشف الباز حقائق عن حياة المصريين الذين يقطنون الصحراء، وخلال زيارته لمدينة سيوة في الصحراء الغربية، توجه إلى رئيس المدينة وقام بجولة في أرجاء الواحة الواسعة التي تعج بكنوز في باطنها.
وسأل الباز بعض الأفراد المقيمين في سيوة، هل تعرفون رئيس مصر؟ فكانت الإجابة صادمة، نعم “الرئيس القذافي” (العقيد الليبي الراحل معمر القذافي)، وهو ما يكشف عن إهمال تعمير الصحراء، والإصرار على عدم الخروج من الدلتا، وإهمال السياسيين للفئات والمدن البعيدة عن العاصمة.
ويسرد الباز قصة أخرى تكشف عما يدور في خلد المصريين، قائلا “كنت في رحلة بحث بصحراء الفرافرة في محافظة الوادي الجديد، وكنا نستعين ببعض المقيمين لمساعدتنا، وفي يوم توفي شقيق أحد العاملين بالمشروع معنا، شددت على أزره، وقلت له سنتوقف عن العمل غدا لحين الانتهاء من مراسم الجنازة، لكنه قال بلهجته الصعيدية، سنذهب أنا والعائلة لندفنه في ‘قفط’، وهي مدينة تابعة لمحافظة قنا في جنوب مصر”.
وتصل المسافة بين مدينة الفرافرة وقفط إلى أكثر من 550 كيلومترا وتحتاج للسفر ذهابا فقط يوما كاملا، لأن الطرق كانت غير معبدة في تلك الفترة. وتيقن الباز حينها أن المقيمين في الصحراء ليست لديهم قناعة بأنهم جاؤوا لتعميرها، وقال لو أن هذا الشخص وأمثاله لديهم قناعة بأن هذه المنطقة موطنهم الجديد لكانوا شيدوا مقابر بها، لكنهم يفضلون الدفن بجوار النيل.
وكشف الباز عن أنه قام بتحليل 65 صورة فضائية للصحراء الغربية، ووجد حياة كاملة على نهر كبير بعمق 24 قدما في قلب الصحراء، بالإضافة إلى واد كبير بعرض 200 كيلومتر مربع ووادين آخرين عرض كل منهما 8 كيلومترات و12 كيلومترا، وتؤكد هذه الاكتشافات أن الدلتا القديمة كانت في الصحراء الغربية.
وأكد أن ممر التنمية مساحة جديدة من الأراضي الزراعية تقدر بنحو 10.5 مليون فدان، فضلا عن تدشين مجتمعات صناعية وسياحية متكاملة. وتصل المساحة الزراعية لمصر حاليا إلى نحو 5.6 مليون فدان، وتسعى القاهرة لتنفيذ مشروعها الزراعي القومي لزراعة نحو 1.5 مليون فدان، وتصل إجمالي المساحات المؤهلة للزراعة بالبلاد بالكامل إلى نحو 10 ملايين فدان. ويضاعف ممر التنمية مساحة الأراضي القابلة للزراعية، ويسهم في حل أزمة الغذاء التي تشهدها البلاد، ويقلل من الاستيراد من الخارج.
شركة بكتل الأميركية
عرضت شركة “بكتل” الأميركية على فاروق الباز تنفيذ مشروعه في بداية الثمانينات، وقامت بدراسته والتي قدرت تكلفتها الاستثمارية بنحو ستة مليارات دولار في ذلك الحين. واستغرقت بكتل نحو ثلاثة أسابيع في إعداد دراستها، ويتطلب تنفيذ المشروع نحو عشر سنوات، وسيدر عائدا يغطي تكلفته خلال عامين ونصف من التشغيل والإنتاج، ويعد اقتصاديا من أقوى المشروعات من حيث الربحية.
وعرض الباز فكرة المشروع، الذي تعثر طرحه بعد وفاة الرئيس السادات، الذي كان متحمسا لتنفيذه، على يوسف والي وزير الزراعية المصري في بداية حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتحمس والي للفكرة، لكنه عندما سأله عن فترة جني ثمار المشروع ورأى دراسة بكتل، رفضه.
وقال الباز “ظللت أربع سنوات أقنع والي بالمشروع إلا أنه رفض وقال صراحة أنا أريد مشروعات تدر عائدا في الحال ولا يمكنني الانتظار لتلك الفترة الواردة بالدراسة”.
وبعد سنوات تحمّست مصر مجددا لفكرة المشروع في عام 2007، وخضع مرة أخرى لدراسة جدوى على الطريقة المصرية في عهد أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، واستغرقت 5 سنوات، وانتهت إلى تقدير التكلفة الاستثمارية للمشروع وفق المتغيرات الجديدة وسعر العملة إلى بنحو 23 مليار دولار.
وربما يعود عدم اقتناع الرئيس الأسبق حسني مبارك بفكرة ممر التنمية في بداية حكمه (النصف الأول من الثمانينات) لأنها كانت فكرة الرئيس السادات، وبدأ في البحث عن مشروع مناسب له، لذلك اتجه إلى مشروع الزراعة في صحراء توشكي والتي تقع في جنوب الصحراء الغربية.
ولم ينجح المشروع بعد أن ضخّت مصر فيه استثمارات تجاوزت العشرات من المليارات، بسبب عدم ربط المشروع بشبكة متكاملة من المشروعات الصناعية التي تتكامل مع الزراعة، فضلا عن عدم إقامة مدن تؤسس لمجتمعات جديدة وتوطن الشباب.
وطرح المشروع مجددا على الطاولة في عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السياسي. وقال الباز عندما سألته “العرب”، عن رأي الرئيس السيسي في فكرة ممر التنمية، “قبل ترشحه (السيسي) للدورة الأولى لرئاسة مصر، وجه لي دعوة للحديث عن فكرة ممر التنمية”.
وأضاف “السيسي أبدى رغبته في وضع فكرة الممر ضمن برنامجه الانتخابي، وطرح عليّ عدة أسئلة، كان أهمها عن الفترة الزمنية لعائد هذا المشروع على البلد، وأكد لي أنني من الممكن أن أقوم بعمل الطريق الرئيسي في الصحراء الذي يصل طوله 1200 كيلومتر على الفور، إلا أن إجابتي كانت غير شافية. حيث قلت له إن العائد لن يكون قبل أربع سنوات على أقل تقدير، والطريق ليس هدفا فقط بل نحتاج إلى أشياء”، حينها أكد له الرئيس السيسي أنه “سيتحول إلى فكرة قناة السويس الجديدة فمردودها سيكون أسرع”.
ثمار تعمير الصحراء
تؤكد حوارات الباز مع المسؤولين في مصر، أنهم لن يصبروا سنوات لجني ثمار تعمير الصحراء، ويسعون إلى شراء رضاء شعبي وسياسي يحتاج إلى عوائد سريعة يقدمونها للمواطنين. وكان الباز يعتقد أن الحكومة المصرية، ستتبنى تنفيذ مشروع ممر التنمية، لكنه اكتشف أنه كان مخطئا، والآن يبحث عن مؤسسة أو مجموعة مستثمرين يتبنون تنفيذ مشروع يقدم لمصر كنوز الصحراء ويكسر حاجز التعامل مع الرمال بشكل علمي.
وأكد أنه يبحث عن مؤسسة تستطيع إدارة الفكرة بالشكل المطلوب وتحقيق العائد منه على المدى الطويل. ثم استطرد مؤكدا أن “المشروع لا يجب أن يكون خارج الإطار الحكومي بشكل مطلق، بل يجب أن يوضع هذا الممر في إطار برامج وخطط الحكومة المستقبلية الخاصة بالزراعة والصناعة والسياحة وكافة المجالات الاقتصادية الأخرى، على أن يتمتع فقط بالاستقلالية عن الحكومة من الناحية التنفيذية”.
كنوز مصر الخفية
قال الباز “هناك صعوبة في أن تكون لدي حلول تساعد مصر على استغلال الصحراء، وأقف صامتا، والفرق بيننا وبين المصريين القدماء أنهم كانوا يتحركون حينما يوجد الخير والنماء”.
وأضاف “قصد المصريون الدلتا القديمة التي تحولت إلى صحراء حاليا، لأنهم كانوا يبحثون عن مواطن القوة، فمثلا منطقة غرب كوم أمبو في أسوان جنوب البلاد، بها تكوين أرضي سمكه خمسة أمتار من التربة النيلية وسط الصحراء، وهي دليل على وجود دلتا قديمة، وتتسم هذه المنطقة بأرض عالية الخصوبة يمكن على توفر نصف مليون فدان”.
وتذكّر الباز تمثال الملك خفرع الذي قام ببناء الهرم الثاني تم نحته من صخرة نادرة الوجود في العالم، ومسجلة باسمه في كتب الجيولوجيا حتى الآن ويطلق عليها “خفرع ديايوريت”، ثم ابتسم قائلا “المصري الحديث ليس لديه الصبر والجد لتعمير الدلتا القديمة رغم أنها تحمل الخير والنماء أيضا”.
فاروق الباز في تصريحات لـ “العرب”: أخطأت عندما راهنت على الحكومة لتنفيذ مشروعي
وأثناء الدراسات تم اكتشاف منطقة فريدة عند سفح مدينة الفيوم الشمالي (جنوب غرب القاهرة)، وهي من أكثر مناطق العالم جفافا، وتصلح أيضا لعمل مزارع عملاقة لإنتاج الطاقة الكهربائية من الشمس، وإنتاجها يكفي مصر بالكامل.
وأشار الباز إلى أن بعض المستثمرين الألمان عرضوا إقامة مجمع للطاقة بتلك المنطقة على مساحة 50 كيلومترا ويصدر فائض الإنتاج إلى أوروبا لكنها لم تنفذ، رغم أن هذه المنطقة جافة ولا تصلح للزراعة كما أنها قليلة الرمال، وبالتالي تناسب مزارع الطاقة الشمسية.
ولم يعلق الباز على بناء أكبر محطة للطاقة الشمسية في مدينة بنبان في أسوان والتي طرحتها مصر على نحو 32 شركة عالمية، لأنه يرى أن صحارى أسوان مليئة باحتياطيات كبيرة من المياه والأفضل أن تستثمر في الزراعة وليس إقامة مزارع للطاقة الشمسية.
وتعرض فاروق الباز في أوقات كثيرة لحملات انتقاد، ربطت بين عمله في الولايات المتحدة، وبين نصائحه للحكومات المصرية المتعاقبة، وذهبت إلى حد أن غالبيتها تحقق أغراضا خفية، لأن بعضها تضمن مقترحات تتولى شركات أميركية تنفيذها، وهو ما يجعل مؤسسات أمنية في القاهرة تتحفظ على تنفيذها، خاصة أن الدراسات التي أجريت على الصحراء الغربية بحوزة جهات أميركية وليست مصرية.
العرب