كولن تيرنر، ولد في برمنغهام عام 1955، حصل على شهادة البكالوريوس في اللغتين العربية والفارسية من جامعة دورهام في إنجلترا، ثم حاز على شهادة الدكتوراه عن أطروحته “الحركات الاجتماعية والسياسية في إيران الصفوية”. مارس التدريس في جامعتي دورهام ومانشستر، اعتنق الإسلام عام 1975. تركزت أبحاثه على الفلسفة الإسلامية، وعلم الكلام، والتشيع، والتاريخ الصفوي، واللغة، والأدب الفارسي. من مؤلفاته: “القرآن: نظرة جديدة”، و”رسالة النور: ثورة إيمانية” في بديع الزمان سعيد النورسي، و”القاموس الموضوعي للفارسية الحديثة”، وغيرها من المؤلفات الأخرى.
في صيف العام 907 هـ/ 1501م، دخل إسماعيل، القائد الصفوي ذو الـ 13 عامًا، مدينة تبريز وأعلن نفسه شاهًا. وكان أول أمر ملكي أصدره هو بأن تتم المناداة في الآذان: “أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن عليًا ولي الله”؛ و هكذا صار مذهب الإمامية دينًا للدولة في إيران.
هذا الحدث الذي غير وجه إيران سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا بشكل يفوق التصور يطرح عدة أسئلة: “لماذا اختير مذهب الإمامية بالذات دينًا جديدًا للدولة الصاعدة؟ وإلى أي حد كانت الانتهازية السياسية حاضرة في هذا الاختيار؟ وما هو مدى انتشار مذهب الإمامية في إيران قبل إسماعيل؟”، هذه الأسئلة وغيرها هي المحاور التي يدور حولها كولن تيرنر في كتابه هذا “التشيع والتحول في العصر الصفوي”؛ حيث يقدم تحليلًا للفكر الشيعي في منعطف رئيس له؛ ألا وهو المنعطف الصفوي.
في الفصل الأول من الكتاب “مراجعة لمفهومي الإسلام والإيمان”، يناقش تيرنر مفهومي الإيمان والإسلام، موضحًا الفرق بينهما، معتمدًا أدلة من القرآن والأحاديث عند السنة والشيعة، وتفاسير قرآنية مختلفة. حيث يرى أن الاهتمام الطاغي للقرآن يركز على الحالة الإيمانية الداخلية (الإيمان)، وليس على الطاعات الخارجية (الإسلام)؛ إذ يؤكد القرآن على التفكر في الكون، والعلم بوجود الخالق، الذي له في كل شيء آية.
ويرمي تيرنر من هذا الفصل إلى التفريق بين مجموعتين من العلماء: “البرانيون”، الذين تركزت جهودهم العلمية على معرفة أوامر الله، أي الشريعة، و”الجوانيون” الذين ركزت تعاليمهم إجمالًا على معرفة النفس ومعرفة الله وتعميق الإيمان (وهذا التفريق الذي سيجعله المحور في دراسة تطور التشيع في إيران في العصر الصفوي). كما يرمي إلى إبراز الأثر الناجم عن التخبط في مصطلحي الإيمان والإسلام؛ فبحسب تيرنر، قد أسهم ذلك الخلط في سيطرة الفقيه على الثقافة الإسلامية وفي الحصر التدريجي لمفهوم العلم في مجال الفقه، كما أسهم في ترسيخ التفريعات الفقهية، وجعلها الشغل الشاغل للعلماء المسلمين، وخاصة في سياق التشيع الاثني عشري، وإيران الشيعية الاثني عشرية، كما يبين في الفصول اللاحقة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب “الدين في إيران القروسطية.. وبزوغ نجم الصفويين”، يدرس تيرنر تطور مذهب الإمامية في إيران الصفوية؛ حيث يقدم استئنافًا وبناءً على أطروحة سيد حسين نصر، والذي يرى (في مقال له بعنوان: “الدين في إيران الصفوية”) أن الأرضية كانت ملائمة لما يسميه “التوطيد المفاجئ للتشيع”، و”التغير السريع” الذي نتج عنه. حيث يذكر قرونًا عدة من تطور الفقه والعقيدة الشيعيين، ونمو الطرق الصوفية الشيعية الميول، إضافة إلى تأسيس نظم سياسية شيعية سابقة على الصفويين؛ وكلها عوامل -بحسب نصر- كانت ممهدة لغلبة التشيع على البلاد.
يبين تيرنر أن إيران كانت قبل الصفويين تحت سيطرة تيارين دينيين رئيسين: تصوف الاتجاه العام، والغلو، أو التصوف الشعبي، المرتبط بنكهة من الهوى العلوي. وقد عاشت روح “الجوانية” في تلك الحقبة في شكل طرق صوفية سنية أرثوذكسية، وكان الصفويون من أبرز أمثلتها في أولى مراحلهم. أما من حيث المذهب والعقيدة، فقد كان جمهور الشعب الإيراني سنيًا على المذهبين الفقهيين: الحنفي والشافعي.
ويرى تيرنر أنه لا يمكن شرح تحول الصفويين من طريقة سنية/ صوفية إلى فرقة تتبنى الغلو في عليّ، بصفته مجرد تعديل بسيط في التوجه الديني. لقد كان هذا التبدل الدرامي المفاجئ مصحوبًا بتغير جذري في ميول الطريقة الصفوية حولها إلى “حركة مسلحة” استطاعت في أقل من نصف قرن أن تنصّب إسماعيل، حفيد الجنيد، على العرش في تبريز. فبحسب تيرنر، فإن التحول الديني يجب أن يُفهم في ضوء التحول السياسي؛ حيث يستنتج أن هذا التحول الديني لم يكن أكثر من ستار للطموح السياسي عند الشيخ الجنيد.
والجنيد هو شيخ الطريقة الصفوية، والذي نصّب بعد أشهر قليلة من وفاة آخر الحكام التيموريين العظام، شاه روخ، عام 850 هـ/ 1446 م. حيث اهتز الاستقرار السياسي آنذاك، بعد موت الأخير، في إيران وبلاد ما وراء النهر، وتُرك المجال مفتوحًا أمام سلالات (آق قوينلو) و(قره قوينلو) المتنافسة كي تتصارع على السلطة. ويبدو أن طموحات الجنيد السياسية نشأت في ذلك الوقت. فتحولت الطريقة معه إلى منظمة عسكرية ذات توجه ديني ذي طابع سافر من الغلو الشيعي الهوى. وفي أيام حيدر، خليفته، زاد النشاط العسكري للطريقة حتى تمكنت، بدعم من القزلباش (تعني: ذوو الرؤوس الحمراء، وهم مجموعة من الجنود الشيعة الذين اعتمدت عليهم الدولة الصفوية في نشأتها)، من تنصيب إسماعيل على عرش تبريز؛ وهي اللحظة التي غيرت وجه إيران كليًا، وإلى الأبد.
في الفصل الثالث “ترسيخ السلطة الصفوية ونهوض البرانية الإمامية”، يستعرض تيرنر تبني البرانية الإمامية وصعودها في إيران الصفوية. فيبين العوامل التي دفعت الشاه إسماعيل إلى تبني البرانية الإمامية (الفقه والحديث الشيعي، متمثلًا في المذهب الجعفري)؛ حيث إنها قد مثلت الأثر المهدئ المطلوب بعد نجاح الثورة الصفوية؛ إذ برزت ضرورة كبح أهم عناصر نجاحها، وهم القزلباش المتعصبون الفوضويون. وقد كان تبني البرانية الإمامية مفيدًا لترسيخ الدولة عبر إطار قانوني معترف به، ونظام عَقَدي محكم. وكان نشرها الفوري أمرًا حيويًا إذا ما أريدت الأحادية المذهبية في إيران. إضافة إلى أن تبني الإمامية سيعزل إيران عن جيرانها السنة (العثمانيون في الغرب، والأفغان والأوزبك في الشرق، والمغول في الجنوب)؛ مما يساهم في إيجاد وعي أقوى بالهوية القومية. وبالتالي؛ يخلص تيرنر إلى أنه: “كما اعتنق أجدادُ إسماعيل الغلو للوصول إلى السلطة، فإنه ومستشاريه استعملوا مذهب الإمامية الأرثوذكسية للحفاظ عليها. وهكذا يجب النظر إلى تبني إسماعيل مذهب الإمامية على أنه عمل سياسي بحت أكثر منه رغبة في نشر المذهب بذاته”.
وقد اعتمد الشاه إسماعيل في نشر البرانية على استقدام الفقهاء من خارج إيران؛ حيث إنه بدءًا من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، كان العلماء العرب قد استلموا زمام التشيع؛ إذ تركز مذهب الإمامية في الأحساء وجبل عامل والبحرين والحلّة، والتي كانت أهم مراكز الدراسات الشيعية، وظلت كذلك حتى نهاية العصر الصفوي.
ويستعرض تيرنر صعود البرانية الإمامية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر: بداية من حكم طهماسب (1524– 1576)؛ حيث استمر نزوح الفقهاء “البرانيين” من جبل عامل ومن خارج إيران، كما استمر نمو “البرانية” الذي أطلقه إسماعيل والفقيه الأبرز عنده، الشيخ الكركي العاملي، إلى حكم الشاه إسماعيل الثاني (1576– 1577)، والشاه محمد خدابنداه (1577– 1587)؛ حيث استمر التدفق خلالهما. وأما الشاه عباس الأول (1587– 1629) فقد نجح أيما نجاح في متابعة الأهداف التي وضعها جده إسماعيل الأول: تحجيم التسنن والتصوف وغلو القزلباش، وإلى توطيد البرانية الإمامية. حيث أجرى الشاه عباس إصلاحات مركزية شاملة، منها ما يتعلق بالجيش؛ إذ أدخل فيه فيالق جديدة جلّها من الغلمان الجورجيين؛ مما ساهم في تغيير تركيبة جيش الإمبراطورية وأدى إلى إحباط قوة وتأثير القزلباش. واستمر نشر الإمامية في عهد الشاه صفي (1629– 1642)، وبلغت ذروتها في عهد الشاه عباس الثاني (1629– 1642).
ويشير تيرنر إلى أنه من أبرز التحولات التي رافقت صعود البرانية الإمامية في إيران الصفوية هو التحول في علم الكلام والعقيدة الشيعية من مركزية الله إلى مركزية الإمام (وهو ما عناه المؤلف في عنوان الكتاب بالإنجليزية: Islam without Allah)؛ حيث تحول الاهتمام من التركيز على التوحيد والنبوة والميعاد إلى التركيز على الإمامة والأئمة، وهو ما تجلى وتبلور في صورته النهائية في أعمال المجلسي.
كما يشير إلى أن فترة صعود البرانية كانت فترة قمع البرانيين كل أشكال التدين المخالفة، والذي تمثل في الهجوم على التصوف والمتصوفة ومعاداتهم، (كما، وربما أشد، مما كان الحال عليه في نجد الوهابية)، وهو ما انتهى إلى اضمحلال “الجوانية” في إيران، وانحسارها في بعض الفلاسفة والحكماء والعرفاء ممن عرفوا بميلهم إلى التصوف.
ويخصص المؤلف الفصل الرابع “العلامة المجلسي: البراني الأمثل”، لدراسة محمد باقر المجلسي وأعماله؛ حيث يستعمل تيرنر المجلسي كنقطة مرجعية لدراسة صعود البرانية الدينية في إيران الصفوية؛ فعلى يد المجلسي صارت البرانية الإمامية أرثوذكسية حقًا، بينما جرى رفض الآراء الأخرى وغالبًا ما تم قمعها. يحلل تيرنر أعمال المجلسي، مبينًا كيف يطغى الطابع “البراني” عليها؛ حيث تتمحور غالبيتها الساحقة حول حياة الأئمة ووفياتهم وكراماتهم، إضافة إلى القواعد المستفيضة التي تحكم الحياة اليومية للمتدين الإمامي.
بل، ويذهب تيرنر إلى أنه: “إذا كانت البرانية واللابرانية/ الجوانية قادرتين على التعايش السلمي نسبيًا قبل المجلسي؛ فإن هذا لم يكن الحال في أيامه. فقد اختار أن يعالج مشكلة المعارضة الجوانية عبر التصوف الشعبي المشوش والتصوف الراقي الأرثوذكسي في سلة واحدة، متهمًا جميع من هم تحت مسمى الصوفية بالهرطقة والبدعة والكفر”.
وفي الفصل الخامس “البرانية تحت المجهر: عقيدتا الانتظار والرجعة عند الإمامية”، يقدم تيرنر استعراضًا وتحليلًا ونقدًا لكتاب المجلسي “بحار الأنوار”. حيث يستعرض “الاسكاتالوجيا” (الأخرويات) في “بحار الأنوار”، دارسًا مفهومي الانتظار والرجعة المتلازمين عند المجلسي، ومحللًا المضامين السياسية لهما. حيث يرى بأنه: “عمليًا، تمنع غيبة المهدي الشيعة الإمامية من اتخاذ الإجراءات الضرورية لبناء مجتمع منظم ومحكوم إسلاميًا؛ كون الفرضية الضمنية هي أن كل الحكومات -حتى التي يحكمها الشيعة- قبل ظهور الإمام، حكومات غير شرعية”. وهي المعضلة التي تم تجاوزها لاحقًا مع الثورة الإيرانية و”ولاية الفقيه”.
ويختم تيرنر الفصل بالتعريج على “التشيع الثوري”، مستعرضًا نقد شريعتي للتشيع الصفوي والبرانية الإمامية، وتمييزه عن التشيع العلوي؛ حيث اعتبر شريعتي التشيع الصفوي تشويهًا وتحريفًا فاضحين للإسلام الشيعي، خلافًا لـ “التشيع العلوي”، والذي يراه الإسلام الحق والأصيل والمثالي؛ وحيث الإمامة الحقيقية عنده هي القيادة الثورية النزيهة الهادفة لهداية الناس وبناء المجتمع بناءً مثاليًا، خلافًا للإمامة الصفوية التي جعلت الأئمة أقرب لآلهة.
ويرى تيرنر أن شريعتي حصل على نتيجة مزدوجة من مفهوم “التشيع العلوي”؛ إذ إنه نبذ الإسلام المتحجر الذي يرفضه الشباب المثالي النزعة، كما أضاف معنى نضاليًا وجديدًا إلى المفاهيم الشيعية. في هذا الإسلام الجديد، حتى الصلاة صار لها معنى سياسي مرتبط بالمعركة. ويرى تيرنر أن ولاء شريعتي للتشيع كان نفعي الطابع بشكل شبه تام، وأن المفاهيم الجوهرية للتشيع قد أعيد قولبتها كأدوات لغاياته السياسية الخاصة؛ وهو ما يسميه تيرنر “التشيع الأحمر”، معتبرًا إياه ضربًا آخر من “البرانية”؛ حيث إهمال المعاني والعقائد الجوانية، والتركيز على الأفعال، ولكن هذه المرة متمثلة في التمرد والثورة.
واليوم، تظهر مقارنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإيران الصفوية تشابهات كبيرة فيما يتعلق بالتوجه الديني العام، وأبرز هذه التشابهات هو أن البرانية ما زالت مسيطرة، وأن في ثوب آخر ومضامين اجتماعية- سياسة مختلفة. وهو ما يؤكد على أن آثار العصر الصفوي ما تزال حاضرة بقوة اليوم في الحياة الشيعية، بل إنه يمكننا القول بأن الإنسان الشيعي قد أعيدت صياغته من جديد بعد هذا العصر، وهو ما يضاعف الحاجة لدراسة هذا العصر وتفكيكه.
كولن تيرنر
عرض: خالد بشير