تمر منطقة الشرق الأوسط بمرحلة تاريخية تنطوي على تغييرات عنيفة ودرامية لأسس ومقومات هذه المنطقة، التي كانت قد قامت واستقرت وجرت على أساسها تفاعلات الحياة فيها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن المرجّح أن تقلصات المخاض التي تجري حاليا، خصوصا منذ فشل ثورات الربيع العربي في بناء نظم ديمقراطية، وإقامة قواعد للعدالة والتنمية المستدامة، سوف تؤدي إلى تغييرات واسعة النطاق في ملامح المنطقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وقد بات من المؤكد أن الحدود السياسية لعدد من دول المنطقة أصبحت قابلة للتعديل مع انهيار الدولة في بلدان مثل سوريا وليبيا واليمن وفشل الدولة في معظم البلدان العربية في المنطقة وزيادة حجم وفاعلية النفوذ الإقليمي للدول غير العربية في التفاعلات الداخلية في المنطقة، ووجود الولايات المتحدة كقيادة عملية بقوة الأمر الواقع لعمليات التدخل العسكري المباشر على المستوى الإقليمي.
يضاف إلى ذلك، لجوء الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلنطي إلى فرض قيود فعلية على استخدام السلاح الأمريكي خارج حدود الدول العريية المشترية له، أو بمعنى آخر اشتراط استخدام السلاح الأمريكي لأغراض دفاعية فقط في داخل الجدود وليس فيما وراءها، والحيلولة دون استخدام الدول المشترية للأسلحة الأمريكية في عمليات يتم تصنيفها على أنها “عمليات هجومية” فيما وراء الحدود. وقد بانت فاعلية هذا الشرط بشكل خاص في وقف محاولة مصر شن غارات جوية على معاقل الجماعات الإرهابية المتطرفة دينيًا في ليبيا بعد أن قامت طائرات مصرية بمشاركة مع طائرات من دولة الإمارات العربية المتحدة في شن غارات على مواقع للجماعات المتمردة في ليبيا. وقد توقفت هذه الغارات فورًا بعد تدخل أمريكي اعتراضا على استخدام القوة الجوية المصرية والإماراتية في عمليات وراء الحدود.
وكان المثال الثاني للتدخل الأمريكي ضد استخدام القوة العسكرية العربية في عمليات وراء الحدود هو ذلك المتعلق بعملية “عاصفة الحزم”، على الرغم من المساعدات اللوجيستية والمعلوماتية التي قدمتها الولايات المتحدة للمملكة العربية السعودية. وقد سجلت الولايات المتحدة في قمة كامب ديفيد الأمريكية-الخليجية اعتراضها على العمليات العسكرية الهجومية على اليمن لقوات التحالف العربي بقيادة السعودية. وقادت الولايات المتحدة حملة ضغط منظمة على السعودية لوقف “عاصفة الحزم” وهو ما أسفر فعليا، قبل انعقاد قمة كامب ديفيد في مايو 2015، عن وقف العمليات العسكرية رسميا وتغيير اسم العملية إلى “إعادة الأمل” وتأكيد المضمون السياسي والإنساني لعملية “إعادة الأمل” على حساب المضمون العسكري لعملية “عاصفة الحزم”. لقد أظهر التدخل الأمريكي في حالتي الدور المصري في ليبيا والدور السعودي في اليمن، أن واشنطن تطبق مبدأ “تقييد التحرك العسكري الإقليمي” للدول العربية منفردة، وإلزام هذه الدول بالتعاون والمشاركة مع الولايات المتحدة في عملياتها العسكرية الإقليمية مثل “الحرب على داعش” في سوريا. بمعنى آخر فإن الولايات المتحدة قررت حصر استخدام القوة العسكرية العربية في داخل حدود كل دولة فقط. وهذا المبدأ من شأنه أن يضع علامة استفهام كبيرة على محاولة تأسيس قوة عسكرية عربية مشتركة للتدخل فيما وراء الحدود ومكافحة الإرهاب على المستوى الإقليمي.
ويمكن القول بأن نمط التفاعلات الحالي في منطقة الشرق الأوسط يخضع لسيطرة العوامل التالية:
- فشل الدولة في العالم العربي بشكل عام وانهيارها تماما في عدد من البلدان الرئيسية التي كانت تقوم بدور مؤثر في النظام الإقليمي العربي السابق لقيام ثورات الربيع العربي في عام 2011. وتبدو ملامح فشل الدولة العربية في ثلاث ظواهر رئيسيية. الظاهرة الأولى هي: عجز الدولة عن حماية وحدة أراضيها ونقصان ممارسة سلطات السيادة داخل الإقليم بأكمله، وهو ما يبدو جليا في سوريا وليبيا واليمن والعراق. أما الظاهرة الثانية فهي عجز الدولة عن فرض القانون والنظام في كل الإقليم الذي تتكون منه الدولة، وهو ما أدى إلى انتشار ظاهرة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمقدار يتفاوت من دولة إلى أخرى في المنطقة. أما الظاهرة الثالثة فهي تتعلق في انهيار الحق الحصري للدولة في ملكية السلاح، وإنشاء القوات العسكرية أو شبه العسكرية. ويبدو هذا جليا في الصومال وفي لبنان وفي العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر والجزائر والسودان.
- زيادة فاعلية ونفوذ الأدوار غير العربية في التفاعلات داخل المنطقة على حساب الدور العربي. وفي هذا السياق فقد تحولت جامعة الدول العربية إلى قزم أو إلى مجرد شبح قيمة له في التفاعلات الإقليمية بسبب العجز الذي تعاني منه الدول الأعضاء في الجامعة العربية. وفي هذا السياق نرى أنه قد تم تهميش الدور العربي إلى أدنى حد في التفاعلات السياسية داخل العراق، وإخضاع الدور العربي في سوريا لقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وفي ليبيا والقرن الأفريقي لحلف شمال الأطلنطي وإيطاليا. إن إسرائيل وتركيا وإيران إلى جانب الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي هي التي تلعب الدور الفاعل والمؤثر في التفاعلات الإقليمية داخل منطقة الشرق الأوسط على حساب الدول العربية التي كانت تلعب دورا قياديا فيما مضى.
- زيادة فاعلية وقوة المنظمات والجماعات غير الحكومية المسلحة وغير المسلحة التي تم تصنيعها بعناية منذ بدايات القرن الحالي على حساب قوة الدولة الرسمية في الدول العربية بشكل عام. ونتيجة للانهيار المفاجئ والحاد الذي تعرضت له الدولة في الدول العربية التي شهدت انفجار ثورات الربيع العربي، فقد استطاعت الجماعات غير الحكومية السياسية المنظمة أن تقوم بسرعة بعملية ملء الفراغ السياسي الناشئ عن انهيار الدولة بمكوناتها الأمنية والسياسية. ثم أدت التفاعلات السياسية اللاحقة إلى بروز القوة المنظمة للجماعات غير الحكومية المسلحة، والتي بلغت أقصى تجلياتها في ظهور قوة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) وتمدد هذا التنظيم من منطقة ظهوره الأصلية إلى مناطق الصراع السياسي الأخرى في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية ومصر.
- لقد أصبحت الجماعات غير الحكومية السياسية والمسلحة لاعبا رئيسيا في عملية التفاعلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. وسوف تسهم هذه الجماعات في تشكيل صورة الشرق الأوسط الجديد حيث أصبحت طرفا رئيسيا من أطراف الصراع التي يستحيل على أي عملية سياسية أن تتجاهلها، وخير مثال على ذلك جبهة النصرة في سوريا وفجر الإسلام في ليبيا وأنصار اللـه (الحوثيون) في اليمن.
- حظر استخدام القوة العسكرية للدولة خارج حدودها، وإصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تقييد حركة القوة العسكرية للدول العربية فيما وراء حدود كل منها، وعدم السماح لاستمرار أي تحالف عسكري إقليمي خارج نطاق المظلة العسكرية الأمريكية. ويرتبط هذا المبدأ بميزان مختل في تحديد العدو المستهدف لأي عملية عسكرية. فالولايات المتحدة تقود تحالفا دوليا للحرب على داعش في العراق وفي سوريا، ولكنها تمانع في المشاركة في تحالف عسكري للحرب على داعش في سيناء أو في ليبيا أو في غيرها من المناطق التي تظهر فيها داعش لقوة قتالية رئيسية. وهي لا ترفض المشاركة في الحرب على داعش خارج العراق وسورية فقط وإنما هي تعارض أي عمل عسكري تقوم به دولة عربية خارج حدودها. وهي إذ تفرض هذا المبدأ على الدول العربية، فإنها لا تتدخل ضد عمليات استخدام القوة فيما وراء الحدود التي تقوم بها دول مثل إسرائيل في فلسطين وسوريا ولبنان، أو التي تقوم بها إيران في العراق أو التي تقوم بها تركيا في سوريا. لقد فرضت الولايات المتحدة مبدأ “حظر استخدام القوة العسكرية فيما وراء الحدود” على الدول العربية فقط، خصوصا على مصر عندما حاولت ممارسة دور عسكري في ليبيا وعلى السعودية عندما شنت بالتحالف مع دول عربية أخرى عملية “عاصفة الحزم” في اليمن. وكما استنتجت سابقا فإنني أعيد التأكيد هنا مرة أخرى على أنه لا مكان لإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة للتدخل فيما وراء الحدود دون موافقة صريحة من الولايات المتحدة، ولن توافق الولايات المتحدة على إنشاء مثل هذه القوة خارج نطاق مطلة دفاعية أمريكية تقودها هي في الشرق الأوسط.
وفي اعتقادي أن هذه الأركان الأربعة، فشل الدولة العربية إلى حد الانهيار، وزيادة فاعلية أدوار الدول غير العربية على حساب الدور العربي، وظهور قوة منظمات وجماعات غير حكومية سياسية ومسلحة تنافس الدولة وتنازعها ممارسة سلطات السيادة وقيام الولايات المتحدة بفرض قيود إلى درجة الحظر على استخدام القوات المسلحة للدولة العربية خارج نطاق حدودها خصوصا فيما يتعلق ياستخدام الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية، هذه الأركان الأربعة هي التي ستشكل في السنوات القليلة المقبلة مقومات ومحددات التفاعلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. لقد دخلنا فعليا إلى عصر أفول الدولة العربية التقليدية التي نشأت بحدودها السياسية وطبيعة أنظمتها الحاكمة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى الآن.
إن هذه المقومات الأربعة الحاكمة لما عداها من مقومات التفاعل الإقليمي ستؤثر باشكال مباشرة وغير مباشرة على توازنات القوة بالمعنى الشامل للكلمة، وعدم اقتصارها على التوازن العسكري فقط خلال السنوات المقبلة. وهذا يدعونا إلى إعادة تأمل عناصر ومقومات القوة في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة رسم مسارات أو سيناريوهات تقريبية للمستقبل القريب (3 إلى 5 سنوات) بغرض استعراض خريطة مكونات التفاعلات الإقليمية الحالية والمقبلة، وتحديد ما فيها من مصادر القوة ومن ثقوب العجز. إن التاريخ لم يعد بالضرورة حتمية مجردة، وإنما يمكن في كل وقت وبمقدار يختلف من حالة إلى أخرى “تصنيع التاريخ” ودفعه إلى المسار الذي يتفق مع إرادة الفعل المبنية على حرية الإختيار. إن انهيار سور برلين لم يكن مجرد جتمية تاريخية وإنما كانت بدرجة أكبر عملية سياسية تم تصنيعها بعناية منذ بدايات سبعينات القرن الماضي، وكذلك كان التورط العسكري السوفيتي في أفغانستان، وكذلك كانت عملية صناعة “طالبان” و “القاعدة” وظهورهما ومن بعدهما جيل جديد من التنظيمات المسلحة المتطرفة دينيا. لقد كف التاريخ عن أن يكون مجرد “حتمية” وأصبح مزيجا بين “التصنيع” على أساس الاختيار وبين “الحتمية” التي تفضي إليها مقومات ومتغيرات القوة وأنماط التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في عالم مفتوح على بعضه بعضا.
ما المحددات والقيود التي تحكم طبيعة تحليل توازنات القوى في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر؟
أولا: تحديد النطاق الجغرافي
فيما يتعلق بتعريف المنطقة وترسيم حدودها، فإننا سنتعامل مع القوى الأكثر نشاطا في تشغيل التفاعلات في المنطقة الممتدة من شرق البحر المتوسط إلى الخليج العربي، والمنطقة الممتدة من الخليج العربي إلى شمال أفريقيا حتى شواطئها مع المحيط الأطلنطي. ولكننا سنضم إليها أيضا منطقة القرن الأفريقي الكبير الممتدة من ليبيا إلى إثيوبيا، نظرا لأن هذه المنطقة، خصوصا إثيوبيا والصومال سوف تلعب دورا مهما في تشكيل اتجاهات التفاعلات في كل من شمال شرق القارة الأفريقية، حيث توجد مصر والسودان وليبيا، وفي جنوب غرب قارة آسيا حيث توجد دول شبه الجزيرة العربية. وقد أظهرت حرب اليمن كيف أن دولا مثل جيبوتي والصومال يمكن أن تلعب دورا محوريا في التطورات داخل شبه الجزيرة العربية، كما أظهرت أزمة سد النهضة كيف أن إثيوبيا يمكن أن تتحول بسرعة إلى لاعب سياسي مؤثر في صنع اتجاهات السياسة المصرية الداخلية والخارجية.
ويجب أن نشير هنا إلى أن التطورات التكنولوجية السريعة في وسائل الإتصالات (الهواتف الخلوية والإنترنيت والأقمار الفضائية) وفي التكنولوجيا العسكرية وخصوصا الجيل الجديد من الأسلحة العابرة للقارات الموجهة عن بعد، من شأنها أن تعظم من شأن العوامل “الحركية الفاعلة” التي تجسدها القدرة الهائلة على الاتصال السريع والتأثير عبر الحدود، على العوامل “الجغرافية الجامدة” التي تجسدها الحقائق الجغرافية الجامدة والمسافات بين البلدان. وعلى الرغم من أن غلبة العوامل الحركية الديناميكية على العوامل الجغرافية الجامدة الساكنة يمكن أن يدفعنا إلى القول بـ “نهاية الجغرافيا”، فإننا من النواحي التاريخية والسياسية والثقافية والجغرافية لا نستطيع تجاهل ميراث ألاف السنين من الحضارة والتفاعلات التي صنعها البشر من خلال تفاعلهم في مجتمعات قريبة من بعضها بعضًا جغرافيا. وهذا على وجه التحديد ما يمنح “الشرق الأوسط” طابعه الخاص. فتلك المنطقة التي تتألف أساسا من دول عربية وإسلامية يوجد أيضا في داخلها دول وقوميات تختلف عن ذلك. فهناك دول مثل إسرائيل وإثيوبيا، وهناك قوميات مثل الفرس والأكراد والآشوريين والأرمن والأفارقة والأمازيغ. ولا يزال الموقع الذي تحتله المنطقة التي تعيش فيها شعوب مختلفة تتمتع بأهمية استراتيجية متميزة على الرغم من كل التطورات في وسائل الاتصالات ونوعية الأسلحة الإستراتيجية.
إن المنطقة الجغرافية التي تغطيها الدراسة إذن تمتد من من شرق البحر المتوسط إلى جنوبه وصولا إلى القرن الأفريقي الكبير. ومع ذلك فإن الدراسة لن تغطي البلدان القائمة حاليا داخل حدود تلك المنطقة، وإنما ستهتم بشكل أساسي بمقومات القوة الاقتصادية في “مقابض القوة” (key holders of power) داخلها. وعلى الرغم من أن مقابض القوة قد تتغير في عصور مختلفة، فإن نمط التفاعلات التاريخية يكشف النقاب دائما عن تلك القوى التي تمسك بموازين القوى ويصعب تجاهلها في التحليل. وفي هذا السياق، فإننا نعتبر أن “مقابض القوة” في منطقة الشرق الأوسط في العصر الذي نعيشه تشمل بالضرورة البلدان التالية:
– مصر
– السعودية
– إسرائيل
– إيران
– تركيا
– إثيوبيا
ومع ذلك فستظل هناك منطقة تفاعلات متوسطة الققوة إلى ضعيفة في تلك المنطقة التي تتمثل في غرب شمال أفريقيا، وهي منطقة تميل التفاعلات فيها بصورة متزايدة إلى التركز في العلاقة مع منطقة شمال البحر المتوسط أو جنوب أوربا. وسوف نشير في مناسبات مختلفة إلى دور بعض الدول غير الدول الست الرئيسية التي حددناها، وأهميتها في التفاعلات الإقليمية وتوازنات القوى الاقتصادية في الشرق الأوسط.
إضافة إلى ذلك، فإنني سوف أشير أيضا من آن إلى آخر إلى دول أخرى من خارج المنطقة في التفاعلات التي تحدث داخلها وفي التأثير على موازين القوى الاقتصادية داخل المنطقة. وبصورة أساسية سوف أشير إلى دور مشاريع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والصين وروسيا في رسم خريطة التوازن الاقتصادي الإقليمي والتأثير على مجريات العلاقات بين دول المنطقة وبعضها بعضا، وبينها وبين العالم الخارجي.
ثانيا: طبيعة القيود والمحددات الراهنة
من المنطقى أن نقرر منذ البداية أن هناك عددا من القيود والمحددات التي تلعب دورا جوهريا في تشكيل ملامح التوازنات الراهنة في الشرق الأوسط. وستظل نتائج الدراسة المبنية على هذه القيود والمحددات صحيحة طالما استمرت تلك على حالها. فإذا تغيرات القيود والمحددات، فإن ذلك يترك فورا تأثيره على النتائج المستخلصة. وسوف نفترض لأغراض البحث أن القيود والمحددات الراهنة سوف تستمر على حالها، في إطار نسق التفاعلات المستخلص من السنوات الخمس الأخيرة. بمعنى آخر فإننا سنفترض “تطورا خطيا” في السنوات الخمس المقبلة، مع عدم إهمال الإشارة إلى احتمالات التغيير وآثارها.
ونستطيع تعريف القيود والمحددات الراهنة على النحو التالي:
1- تمر الدول العربية بمرحلة انتقالية صعبة بعد عقود طويلة من الجمود السياسي. وبسبب نقص الثقة العميق والذي يصل إلى درجة فقدان الثقة في النخب أو الأسر الحاكمة في الدول العربية، فإن هناك حالة من التفسخ السياسي، الأمر الذي يجعل الإصلاح أكثر صعوبة. وقد أظهرت تجربة السنوات الماضية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وما تلاها من اضطرابات، أن الشعوب راحت تتفنن في ابتزاز النخب والأسر الحاكمة، وأن الأخيرة لجأت في المقابل للرد بخلطة سياسية واقتصادية تتكون من محاولة امتصاص الغضب بحلول قصيرة الأجل ترضى الشعوب الغاضبة، والاستمرار في السياسات القديمة الفاسدة كطريق للحكم وللإدارة على المدى الطويل. هذا الوضع ينتح حالة كئيبة من عدم اليقين بشأن المستقبل تتضمن الملامح التالية: عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، ضياع فرص حقيقية للنمو مقابل مكاسب مؤقتة قصيرة الأجل، ضعف ثقة المجتمع الدولي بما في ذلك المؤسسات والمنظمات الاقتصادية والمالية. هذه السياسات التي تم تبنيها خصوصا في مصر وتونس أدت بالاقتصاد إما إلى مزيد من التدهور أو إلى تعافٍ وقتي مترنح (staggering recovery) وهو ما أنتج المزيد من الإحباط الاجتماعي، خصوصا بين الشباب.
2- لا يزال الاستقطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي الرئيسي في المجتمعات العربية قيد التحول هو بين قوى الاستبداد الديني، ممثلة في الإخوان المسلمين والجماعات السلفية من ناحية وبين تحالف القوى العسكرية ورجال الأعمال والبيروقراطية القديمة في جهاز الدولة في الناحية المقابلة. ولم تستطع القوى المدنية الديمقراطية طوال السنوات التالية للثورة أن تثبت قدرتها على قيادة الفعل السياسي أو التحول إلى مركز استقطاب حقيقي في عملية التغيير. لقد حصرت القوى السياسية المدنية دورها في إطار “الاحتجاج السياسي” وهو دور يعجبها وتزهو به، وفشلت هذه القوى في أن تتحول من “الاحتجاج” إلى “البناء السياسي الإيجابي” والانخراط بقوة في عملية التغيير من خلال لعب دور قيادي في العملية السياسية. إن شيخوخة وفساد الأحزاب المدنية وخضوعها لسطوة رجال الأعمال وتغلغل أجهزة الأمن السياسي القديمة داخل بنيتها القيادية يفقدها المؤهلات العملية للقيادة والمشاركة السياسية الحقيقية في عملية التغيير. وطالما ظلت هذه هي حال العملية السياسية، وطالما استمر الإستقطاب السياسي الحقيقي محصورا بين قوى الاستبداد الديني وبين تحالف الدولة القديمة ورجال الأعمال، سواء كان ذلك من خلف واجهة عسكرية أم دونها، فإن عملية الانتقال السياسي نحو الديمقراطية في البلدان العربية ستتعثر وستطول وسيشوبها الغموض وعدم اليقين. إن هذا يعني عند ترجمته إلى معادلات القوة الإقليمية، استمرار حال الضعف والهزال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في العالم العربي، وضعف قدرة الدول العربية على المقاومة ومواجهة التحديات والإخطار الخارجية، سواء من داخل الإقليم أو من خارجه.
3- حول الدول غير العربية في الشرق الأوسط من مراحل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني إلى مراحل “اليقين” بشأن الأمن والاستقرار والنمو. وعلى الرغم من تفاوت درجات اليقين بين دول مثل إسرائيل (أعلى درجات اليقين) وإيران وتركيا، التي تتمتع بدرجة يقين أقل نظرا لتفاوت علاقاتها بالنظام الدولي واختلاف درجة نموها السياسي واستقرارها، وكذلك معدلات نموها وعلاقتها بالاقتصاد العالمي. هناك إذن انقسام واضح من حيث درجة “اليقين” في الشرق الأوسط، بين الدول العربية التي تنخفض فيها معدلات اليقين والدول غير العربية التي تتمتع بمؤشرات “يقين” أقوى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
4- فيما يتعلق بالمتغيرات الاقتصادية، فإننا نقسم هذه المتغيرات إلى مجموعتين رئيسيتين، المجموعة الأولى هي المتغيرات الاقتصادية الأساسية التي تكون معا ما يمكن وصفه ب “القرص الاقتصادي الصلب” (economic hardware) وهذه تشمل الموقع والمساحة والموارد الطبيعية وحجم السكان والناتج القومي بمكوناته المختلفة. أما المجموعة الثانية فهي المتغيرات الاقتصادية النوعية التي تكون معا ما يمكن وصفه بـ “القرص الاقتصادي المرن” (economic software) وهذه تشمل نوعية السياسة الاقتصادية ودرجة تعليم وكفاءة القوى البشرية وإنتاجية العمل ورأس المالي ومستوى التجديد التكنولوجي في الاقتصاد ودرجة الاندماج في الاقتصاد العالمي ومستوى هذا الاندماج من حيث ارتباطه بالحلقات العليا أو الدنيا من الإنتاج وغيرها من المتغيرات التي تستخدم في تشغيل المتغيرات الأساسية وتؤدي إما إلى تعظيم قيمة استخدام هذه الموارد أو إلى إحباطها. وترتبط المجموعتان، خصوصا المتغيرات النوعية المرنة بدرجة كفاءة النظام المؤسسي، من حيث سيادة القانون ونوعية البيروقراطية في الأجهزة الإدارية للدولة وأنظمة الشفافية ومكافحة الفساد.
- تتمتع الدول غير العربية بظاهرة ما يمكن تسميه “فائض القوة” (excess of power) أو (power surplus) في مقابل حالة “عجز القوة” (power deficit) التي تعاني منها الدول العربية الرئيسية. وقد استفادت الدول ذات القوة الفائضة من حالة الضعف وعجز القوة في الدول المجاورة إلى حدود كبيرة في السنوات الأخيرة. وظهر هذا بوضوح في سعي الدول ذات “فائض القوة” إلى طلب النفوذ وإلى التوسع الإقليمي على حساب دول العجز. وفي هذا السياق وجدت إيران مجالا فسيحا لنفوذها في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والبحرين واليمن. كذلك فإن تركيا أيضا سعت إلى طلب زيادة نفوذها في سوريا وفي العراق وتوسيع نطاق مصالحها في الدول العربية خصوصا دول شمال أفريقيا. وبالنظر إلى تعقيدات الوضع الحالي على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، فإن فائض القوة لدى إسرائيل وإيران وتركيا، يمنح الدول غير العربية في المنطقة ميزة إقليمية (regional advantage) على حساب الدول العربية التي تعاني من عجز متزايد في قوتها. وفي حال إثيوبيا، فإن تلك الدولة الأفريقية المحورية تمكنت أخيرا من وضع قدميها على بداية الطريق إلى تحقيق نمو سريع مقارنة مع جيرانها. كما تمكنت في الوقت نفسه من خلال مشروع “سد النهضة” من فرض قيد ثقيل على التنمية في كل من مصر والسودان، في حال فشلت الدولتان في تحويل المشروع من مشروع “إثيوبي” إلى مشروع للنفع “الإقليمي”.
6- أصبحت الأنظمة العربية الجامدة أو العجوز مصدرا رئيسيا من مصادر تهديد السلام العالمي بسبب الصراعات المحلية التي تطورت إلى حروب أهلية وحروب إقليمية بالوكالة، كما هي الحال في الصومال و العراق وسوريا واليمن. وبسبب فشل هذه الأنظمة الذي خلف وراءه صعودا قويا لمنظمات غير حكومية مسلحة، لا تكتفي فقط برفع راية التمرد على الأنظمة القائمة، وإنما تعمل بوضوح من أجل إعادة رسم الحدود السياسية للدول القائمة، وتغيير الحدود التي كانت اتفاقية سايكس- بيكو قد وضعتها قبل نهاية الحرب العالمية الأولى. وبسبب الحروب الأهلية نشأت موجات هائلة غير مسبوقة من الهجرة والنزوح بين السكان. وتجري عمليات الهجرة والنزوح بوتيرة متسارعة وبأعداد متزايدة في العراق وسوريا وفي اليمن. وبسبب فشل هذه الأنظمة تساعدت موجات الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط إلى جنوب أوربا. وتعتبر السواحل المصرية والليبية أهم معابر الهجرة غير الشرعية في السنوات الأخيرة، تضاف إليها مواقع أخرى مثل السواحل المغربية. وكلما زادت درجة المشقة الاقتصادية واتسع نطاق البطالة وندرة فرص العمل خصوصا للشباب، فإن الموت في البحر يصبح أقل خطرا من الحياة بلا عمل وبلا أمل في الأوطان الأصلية. إن تدفق المهاجرين غير الشرعيين يمثل خطرا على أمن واستقرار دول الاتحاد الأوربي، كما يمثل خطرا داهما يمثل الأمن الإنساني للمهاجرين أنفسهم، حيث يلقى الآلاف منهم حتفهم سنويا غرقى في عرض البحر. إن فشل النظام التعليمي والاقتصادي والسياسي تحول إلى خطر أمني يهدد حياة الناس وأمنهم على جانبي البحر الأبيض المتوسط جنوبا وشمالا. أضف إلى ذلك أيضا خطر انتقال الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود غير الخاضعة للسيطرة وعبر الحدود من جنوب البحر المتوسط إلى جنوب أوربا.
إن السنوات الأخيرة سجلت بوضوح بداية تهشم القوة الإقليمية العربية، بدءا من انهيار الدولة في الصومال في أواخر القرن الماضي، إلى تقسيم السودان رسميا وانسلاخ جنوب السودان عن النظام الإقليمي العربي، إلى الحروب الأهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن. وإذا أضفنا إلى كل ذلك احتمالات انفجار برميل بارود من المشاكل المتفجرة في السودان في اي وقت خلال السنوات القليلة المقبلة واحتمالات زيادة نشاط التنظيمات المسلحة المتطرفة دينيا في بلدان شمال أفريقيا، فإننا سنكون إزاء حالة فريدة يشهدها العالم الذي استقرت فيه التفاعلات على أسس سلمية في أمريكا اللاتينية وأوربا وجنوب شرق آسيا، بينما هناك غليان في منطقة الشرق الأوسط وربما في بعض أجزاء أفريقيا سوف يطغي على نمط التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط، ويصبغه بطابع عنيف خلال فترة سينخفض فيها لا محالة معدل “اليقين السياسي” وتزداد فيها التوترات الداخلية، وكذلك التوتر في العلاقات مع العالم الخارجي. وسوف تحتاج بلدان الشرق الأوسط العربية إلى إعادة بناء قدراتها ومقومات قوتها على أسس جديدة لكي تصبح قادرة على التعامل بندية مع عالم جديد فشلت حتى الآن في إدراك طبيعة التغيرات فيه.
إبراهيم نوار
المركز العربي للبحوث والدراسات