الحل السياسي عادة ما يكون بين أطراف تتفق على الحد الأدنى من الشروط والخطوط والمصالح، تجتمع على المصلحة العليا للوطن، بل تعترف بالوطن، ككيان جغرافي واجتماعي متعدد العرقيات والأديان والمذاهب، وتؤمن بأن هذه المساحة الجغرافية لها حدود تتسع للجميع.
الحل السياسي يعني أن هناك إمكانية لتبادل وجهات النظر والتحاور الحضاري تحت سقف الوطن، ويعني القبول بالآخر وانتمائه وعقيدته ومذهبه وتاريخه وتقاليده وعاداته وأسلوب حياته ولغته وثقافته. الحل السياسي يعني الإيمان بالحقوق المدنية لجميع الأطياف والأقليات والانصهار في بوتقة الوطن. الحل السياسي يعني الإيمان بالسلام وبالقانون وأن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، فلا يؤخذ بالشبهات أو الظن أو الاعتقادات والترجيحات. والحل السياسي يتم بين أطراف لا يدعون أنهم وكلاء لله، سبحانه وتعالى، على الأرض. والحل السياسي هو الإيمان بالحرية للجميع، وبحق الاجتهاد للجميع.
الحل السياسي لا يتم بالإملاءات ووسائل الإجبار ومصادرة حقوق الآخرين وتهديد وجودهم وكياناتهم، والحل السياسي لا يكون بسيادة الفكر الواحد والفتوى الواحدة والتصور الواحد وأسلوب الحياة الواحد، إنه أشبه ببستان يتسع لجميع الزهور والنباتات والأشجار والتغريدات والطيور والمخلوقات والكائنات، إنه أشبه ببحر يسبح فيه الجميع ويستجمون ويتشمسون على ساحله دون خوف من أي شيء. وأشبه بأسرة تتشاور بود ومحبة واحترام في إطار من التقدير للرجل والمرأة والطفل والجار والضيف وغيرهم.
منذ اندلاع الصراعات المسلحة في سوريا وليبيا والعراق وليبيا وتونس وحتى في مصر والصومال، والأصوات العربية والأجنبية تنادي بين حين وآخر بالحلول السياسية، ولا يمكن للحلول العسكرية أن تنجح.
طبعاً، لقد بدأت هذه الأصوات تعلوا بعد أن شحنت الأطراف كلها بالسلاح والعتاد والتدريب على القتال، وسهلت عبور المسلحين وأتت بهم من كل بقاع الأرض، وصرفت عليهم المليارات، وبعد أن سقط عشرات الآلاف من الجنود والمسلحين، ومئات الآلاف من المدنيين، وبعد أن تم تهجير الملايين من المدنيين من بيوتهم داخل أوطانهم وخارجها، وبعد أن ازدحم البحر بقوارب المهاجرين المتجهين إلى الدول الأجنبية، وبعد أن قضى الآلاف منهم في البحار والمحيطات. بعد كل هذا الدمار والخسائر، واكتشاف أن الحل العسكري لم يأتِ ثماره خرجت الأصوات للمطالبة بالحلول السياسية، ولكن بعد أن ترسّخ العداء والانتقام بين الأطراف، وبعد أن ارتدت الفتنة جلود الأفاعي والديناصورات والتنين، وبعد أن انتشرت العصابات في كل شارع وحي وبيت، والأهم من هذا كله، بعد أن تعاظمت قوة التنظيمات المتطرفة، واحتلت آلاف الكيلومترات والمدن الكبيرة والقرى، وأنشأت كياناتها ورسخت من وجودها وتحكمت بالسكان وبأقدارهم وأعادتهم إلى عصور الظلام والتخلف والحقد والقتل بالشبهات، وإلى زمن الغزوات وقت الجاهلية وسبي النساء والاستيلاء على مخازن الغذاء والقمح والدقيق، ناهيك عن الاستيلاء على آبار النفط والغاز، والتحكم بمصادر المياه ومسارات الأنهار والبحيرات والسدود. بعد كل هذا تظهر الأصوات لتلعب مرة أخرى على الزمن وتنادي بالحل السياسي!
ترى، أي حل سياسي سيكون مع هؤلاء القوم الذين جاؤوا من الشيشان وطاجاكستان وأفغانستان وإيران ودول الاتحاد السوفييتي السابق، إضافة إلى آلاف قدموا من المغرب العربي وإلى آلاف آخرين قدموا من فرنسا وأستراليا وكندا وهولندا وبلجيكا والسويد والدنمرك واستراليا ودول أخرى، كل هؤلاء جاؤوا إلى الشرق، إلى دول الشام والعراق وليبيا، ليقيموا ما يسمى «دولة الخلافة الإسلامية»، هذه الدولة التي لا تعترف بالدول القائمة، ولا سكانها الذين ينتمون إلى أديان ومذاهب شتى، وإلى ثقافات متعددة وربما لغات ولهجات مختلفة، جاؤوا يحملون السيف والبندقية والقتل والجهل، لا تربطهم أي رابط اجتماعي أو أسري أو عاطفي أو لغوي أو ثقافي مع السكان والشعوب، جاؤوا من ثقافات مختلفة كلياً عن ثقافات الشرق الذي استوعب كل الأديان والثقافات واحتواها وترجمها وأعاد إنتاجها، الشرق الغني بالآثار، التي يعتبرونها أصناماً، وبالتعددية التي يعتبرونها عيباً وبالحرية التي يعتبرونها حراماً، جاؤوا إلى شرق، حيث المرأة واجهت الحياة وبنت المجتمعات والأجيال جنباً إلى جنب مع الرجل، بينما هؤلاء القادمون من خلف الحدود ينظرون إلى المرأة ككائن للمتعة والتكاثر فقط لا غير، وقد يتسامحون فيقبلون بها مقاتلة كي يجاهدوا بها ومن خلالها.
ترى كيف يمكن أن يتحقق الحل السياسي مع هؤلاء القوم الذين يقولون إن كل من في المنطقة كفار ولا بد من قتلهم أو يدفعون الجزية لهم؟ على أي طاولة يمكن الجلوس مع هؤلاء؟ وما هي الأجندة المطروحة للتفاوض والتحاور؟ وما هو سقف الحلول معهم؟
هؤلاء يفهمون لغة واحدة فقط: الاستسلام والمبايعة ودفع الجزية أو السيف لرقبة كل من يرفض! فهل هذه اللغة تناسب الحل السياسي؟
أشعر أحياناً أن من يطرح الحل السياسي مع هؤلاء يعيش في كوكب آخر، أو أنه متآمر معهم، أو أنه يلعب على الزمن ليمنحهم الوقت الكافي لمزيد من السيطرة على الأراضي، ولمزيد من المذابح والقتل بين المدنيين والجنود، بل يمنحهم الوقت الكافي لتدمير كل ما يدل على أن هذه الدول كانت يوماً من الأيام واحة للحضارات القديمة!
وأشعر أيضاً أن طرح الحلول السياسية هو نوع من الخروج من مأزق اللاحل والتحايل في التعامل مع الورطة والخطر الذي بات يهدد الجميع.
أي حل سياسي يمكن أن يتم مع تنظيم (داعش) أو تنظيم «القاعدة» وفروعه من «جبهة النصرة» وغيرها، وهم يسيطرون على مناطق شاسعة من دول مثل سوريا وليبيا والعراق، وهناك أخبار أنهم يسيطرون على أقاليم واسعة في أفغانستان، ويحاولون الظهور في اليمن؟
هؤلاء القوم يقدمون ردهم كل يوم على الأصوات التي تنادي بالحلول السياسية، عن طريق احتلال المزيد من الأراضي، وقتل المزيد من المدنيين والعسكريين وسبي النساء وتجنيد الأطفال وتدمير المعالم الحضارية وحرق المؤسسات.
إن الرد عليهم لا يكون إلا بإبطال مشروعهم التدميري التكفيري الظلامي الذي يريد إعادة الناس إلى عصور الظلام، وكل وسائل الرد العسكري والفكري والثقافي يجب أن تكون مطروحة على الطاولة، باستثناء الحل السياسي، لأنه فاشل بامتياز.
د. عبدالله السويجي
الخليج