هرتسيليا2015.. خارطة الفرص والمخاطر

هرتسيليا2015.. خارطة الفرص والمخاطر

انتهت قبل أيام أعمال مؤتمر “الأمن القومي الإسرائيلي” الخامس عشر الذي نظمه مركز هرتسيليا متعدد الاتجاهات، والذي تناول- كما هو الحال في مؤتمراته السنوية السابقة- خارطة الفرص والمخاطر الإستراتيجية التي تواجه الكيان الصهيوني.

وقد خلص المؤتمر إلى قائمة من التوصيات التي تهدف إلى تحسين قدرة إسرائيل على مواجهة المخاطر الناجمة عن التحولات التي طرأت على بيئتها الإقليمية، وتمكينها أيضا من استغلال الفرص التي أفضت إليها هذه التحولات.

وقد اهتمت النقاشات والأوراق البحثية التي قدمت للمؤتمر بشكل خاص، برصد التطورات المتلاحقة في العالم العربي واستشراف تداعياتها على إسرائيل، لا سيما التطورات في كل من العراق وسوريا، وزيادة تأثير الحركات الجهادية على المشهد الإقليمي، والثورات المضادة، والبرنامج النووي الإيراني، إلى جانب تداعيات تعاظم دائرة فعل حركة المقاطعة الدولية (بي.دي.أس).

وقبل الخوض في طابع المداولات التي شهدها المؤتمر، تتوجب الإشارة إلى أنه في العامين الماضيين تراجعت مكانة مؤتمر “هرتسيليا” كمنصة للتعبير عن اتجاهات التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي، وفي المقابل زادت أهمية المؤتمرات التي ينظمها مركز “أبحاث الأمن القومي”.

من ناحية منهجية، وبخلاف الانطباعات التي تعكسها تغطية الإعلام العربي لمداولات مؤتمر “هرتسيليا”، فإن الاعتبارات السياسية والدعائية تلعب دورا مهما في إملاء المواقف التي تعبر عنها النخبة السياسية الحاكمة، مما يجعل هذه النخب تلجأ إلى التضخيم أو التقليل من شأن مخاطر ما، استنادا إلى بوصلة توجهاتها الأيدولوجية. في الوقت ذاته، فإن بعض الرؤى التي قدمها الباحثون الذين ساهموا بأوراق في المؤتمر، تتعارض مع رؤى وتصورات باحثين مهمين آخرين.

تحييد الجبهة الشرقية
“خلص المشاركون في نسخة هذا العام من مؤتمر هرتسيليا إلى أنه لم يعد هناك خطر يتهدد إسرائيل من الجبهة الشرقية، علما بأنها ظلت مصدر التهديد الرئيسي بالنسبة لإسرائيل منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفد عام 1979”

من خلال مداولات المؤتمر التي شارك فيه كبار قادة الكيان الصهيوني، بدءا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومرورا بكبار وزرائه وقادة الجيش وانتهاء بكبار الباحثين في الشؤون الإستراتيجية، يمكن الإشارة إلى عدة تحولات إقليمية تم التعاطي معها على أنها “فرص” يتوجب استغلالها واستخراج الطاقة الكامنة فيها.

فقد أجمع المتحدثون في المؤتمر على أن عام 2015 شهد تواصل التحول الذي طرأ مع اندلاع ثورات الربيع العربي، والمتمثل في انهيار الدولة العربية القطرية وتفكك الجيوش التقليدية، وهو ما أفضى إلى تحسن مكانة إسرائيل في ميزان القوى الإستراتيجي بشكل جذري. فقد تراجع التهديد العسكري التقليدي العربي بسبب التفكك الفعلي للجيشين السوري والعراقي، وانكفاء الجيش المصري على ذاته واهتمامه بالشأن الداخلي.

وخلص هؤلاء إلى أنه لم يعد هناك خطر يتهدد إسرائيل من الجبهة الشرقية، علما بأنها ظلت مصدر التهديد الرئيسي بالنسبة لإسرائيل منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفد عام 1979. وأكدوا أن هذا التطور مكّن إسرائيل من إعادة بناء جيشها بشكل يقلص من الاستثمار المادي التقني في مجال تطوير القدرات التقليدية التي كانت تصلح لمواجهة الجيوش التقليدية، مع كل ما يعنيه الأمر من تقليص النفقات الأمنية.

وحرص المتحدثون على الإشارة إلى أن انهيار الدولة القطرية أفضى إلى ولادة كيانات مريحة لإسرائيل، كما تجلى ذلك في تعزيز مكانة إقليم كردستان العراق واقترابه من إعلان الاستقلال، علما بأن هذا الكيان يحتفظ بعلاقات خاصة مع إسرائيل.

تحسن البيئة الإستراتيجية
تم تحديد ثلاثة تطورات ضمنت تحسين البيئة الإقليمية والمكانة الإستراتيجية في نظر المتحدثين في المؤتمر، وهي: الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي على الرئيس المصري محمد مرسي، والتقاء المصالح بين تل أبيب وعدد من الدول العربية بسبب الخوف المشترك من إمكانية إقدام الغرب على تسوية مع طهرانبشأن البرنامج النووي الإيراني لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل وهذه الدول، إلى جانب غياب مصلحة لدى كل من حزب الله وحركة حماس في إشعال الجبهتين الشمالية والجنوبية.

وقد عُني رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الحرب الجنرال عاموس جلعاد بإبراز العوائد الإستراتيجية التي حصلت عليها إسرائيل في أعقاب الانقلاب، لدرجة أنه عدّ الانقلاب “معجزة لإسرائيل”.

واللافت أن جلعاد اعتبر أن ترسيخ الشراكة بين مصر وإسرائيل في الحرب على المقاومة الفلسطينية أهم التحولات التي شهدها العام المنصرم، حيث أشار إلى أن نظام السيسي لعب دورا رئيسيا في تجفيف منابع هذه المقاومة عبر إغلاق الإنفاق ومنع تدفق السلاح إلى قطاع غزة. ولم يكن ثمة خلاف خلال المؤتمر على أن إسرائيل تستفيد بشكل كبير من الحرب التي يشنها السيسي على جماعةالإخوان المسلمين والجهاديين في سيناء.

وقد حث بعض المتحدثين على استغلال نقاط التقاء المصالح بين إسرائيل والدول العربية في بناء تحالفات إقليمية تمكّن الكيان الصهيوني من تحقيق مصالحه بتوظيف أقل قدر من الإمكانات. وأكدوا أنه لا يوجد ميل لدى حزب الله لإشعال الجبهة الشمالية بفعل تورطه في القتال بسوريا وبسبب نجاح حرب 2006 في ردع الحزب، بينما أشارت المداولات إلى أن إعادة إعمار قطاع غزة تقع على رأس أولويات حركة حماس في المرحلة الحالية، مما يقلص من رغبة الحركة في إشعال الجبهة الجنوبية.

ونظرا لأنه تم الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التركية أثناء انعقاد المؤتمر، فقد أكد المتحدثون أن هذه النتيجة تحمل في طياتها إمكانية تحسين البيئة الإقليمية لإسرائيل، كما قال ذلك صراحة رئيسها السابق شمعون بيريز.

النووي الإيراني
“تم تحديد ثلاثة تطورات ضمنت تحسين البيئة الإقليمية والمكانة الإستراتيجية في نظر المتحدثين بالمؤتمر وهي: انقلاب مصر، والتقاء المصالح مع عدد من الدول العربية بسبب الخوف المشترك من الاتفاق الغربي الإيراني، وغياب مصلحة لدى كل من حزب الله وحركة حماس في إشعال الجبهتين الشمالية والجنوبية”

وعلى الرغم من أن الملف النووي الإيراني حافظ على موقع الصدارة في قائمة التهديدات الإستراتيجية التي رصدها المسؤولون والباحثون الصهاينة في المؤتمر، فإنه يتوجب التعاطي بحذر شديد مع الحرص الإسرائيلي على تسليط الأضواء على هذا الملف، إذ صحيح أن القيادة الإسرائيلية الحالية ترى في النووي الإيراني تهديدا وجوديا من الطراز الأول، إلا أنه يتوجب عدم إغفال الأهداف الدعائية التي كانت وراء حرص نتنياهو في كلمته أمام المؤتمر على إبراز مخاطر هذا الملف.

فقد وظف نتنياهو المؤتمر كمنصة لممارسة ضغط على الإدارة الأميركية وقادة الغرب لأخذ مواقف إسرائيل بعين الاعتبار قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع طهران بشأن هذا الملف، علما بأن موقف نتنياهو المعلن من النووي الإيراني يتناقض مع مواقف رئيس الموساد الحالي تامير باردو ورئيسه السابق مئير ردغان ورئيس المخابرات الداخلية السابق يوفال ديسكين الذين أكدوا في أكثر من مناسبة أن الصراع مع الفلسطينيين هو التهديد الوجودي الأبرز على إسرائيل وليس البرنامج النووي الإيراني.

ورغم اتفاق النخب التي تحدثت أمام المؤتمر على أن الجماعات الجهادية العاملة في سوريا والعراق وسيناء غير معنية في الوقت الحالي باستهداف إسرائيل، فإنها توقعت في المقابل أن تتحول هذه التنظيمات إلى تهديد إستراتيجي في المستقبل. وحسب السيناريوهات التي قدمت في المؤتمر، فإن جزءا من التنظيمات العاملة بسوريا ستنتقل لاستهداف إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد.

ويستشف من المداولات أن ما يفاقم التهديد الذي تمثله التنظيمات الجهادية حقيقة أنها قادرة على استنزاف إسرائيل لكثرتها وتعدد قياداتها وتوجهاتها، ناهيك عن تواجد بعضها قرب أماكن حساسة داخل إسرائيل، مثل تلك المتواجدة في منطقة الجولان والجنوب السوري. ولا خلاف بين المتحدثين في المؤتمر على أنه من الصعب جدا ردع التنظيمات الجهادية لافتقادها مقومات الدولة التي يمكن ضربها لتعزيز الردع.

وحسب التقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية، فإن مواجهة التنظيمات الجهادية يتطلب إعادة صياغة النظرية الأمنية للكيان الصهيوني والعقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي الذي سيكون مطالبا بممارس جهد حربي في مناطق مختلفة وفي آن واحد. وقد أكدت النخب الأمنية ذات الخلفية الاستخبارية التي تحدثت أمام المؤتمر أن مواجهة الحركات الجهادية تستدعي أولا استثمار طاقات كبيرة في الجهد الاستخباري من أجل بناء بنك أهداف يمكّن من ضرب هذه الحركات عند الضرورة.

ولم تستبعد النخب الأمنية والبحثية الإسرائيلية أن تشكل التنظيمات الجهادية تهديدا لأنظمة يمثل بقاؤها مصلحة إستراتيجية لإسرائيل مثل النظام الأردني، فقد حذر الجنرال عاموس جلعاد من خطورة أن يفضي تمدد تنظيم الدولة الإسلامية إلى تهديد الأردن الذي وصفه بأنه “عمق إستراتيجي لإسرائيل”.

خطر المقاطعة الدولية
انعقد مؤتمر “هرتسيليا 2015” في أوج الحملة التي تشنها إسرائيل والمنظمات اليهودية الأميركية على حركة المقاطعة الدولية (بي.دي.أس)، مما أثر على مداولات المؤتمر، فقد أجمع المتحدثون على أن حركة المقاطعة يمكن أن تتحول من تهديد إستراتيجي إلى تهديد وجودي إذا تعاظمت وتيرتها. وتنبع خطورة هذه الحركة من حقيقة أنها تهدف إلى المس بشرعية إسرائيل الدولية ومكانتها العالمية على نحو خطير، لا سيما في الغرب.

“لم تستبعد النخب الأمنية والبحثية الإسرائيلية أن تشكل التنظيمات الجهادية تهديدا لأنظمة يمثل بقاؤها مصلحة إستراتيجية لإسرائيل مثل النظام الأردني، فقد حذر الجنرال جلعاد من خطورة أن يفضي تمدد تنظيم الدولة إلى تهديد الأردن الذي وصفه بأنه عمق إستراتيجي لإسرائيل”

وحذر الكثير من المتحدثين من أن حركة المقاطعة يمكن أن تفضي إلى تقليص هامش المناورة أمام إسرائيل عند مواجهتها المقاومة الفلسطينية، على اعتبار أن صناع القرار في تل أبيب سيأخذون بعين الاعتبار إمكانية المس بمكانة إسرائيل الدولية قبل أن يقرروا شن عمليات عسكرية يمكن أن تسفر عن المس بعدد كبير من المدنيين الفلسطينيين. وعلى الرغم من أن التداعيات الاقتصادية للمقاطعة الدولية محدودة في الوقت الحالي، فإن كلمات المتحدثين توقعت أن يتكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر كبيرة بسبب المقاطعة في المستقبل إذا لم يتم تطويقها.

إن أكثر ما يدلل على تأثير الاعتبارات الأيدولوجية على مداولات مؤتمر “هرتسيليا 2015” هو عدم الاهتمام باستشراف تداعيات بقاء الصراع مفتوحا مع الشعب الفلسطيني، وهذا ما ينسجم مع توجهات الحكومة اليمينية المتطرفة، علما بأن هذا الصراع يؤثر على كل مصادر التهديد التي تم رصدها في المؤتمر.

توصيات المؤتمر
واستنادا إلى المداولات والأوراق التي قدمت للمؤتمر، صاغت لجنة منبثقة عن المؤتمر عدة توصيات لمواجهة المخاطر الناجمة عن التحولات في العالم العربي.

فقد أوصى المؤتمر باعتماد إستراتيجية أمنية شاملة تهدف إلى إحباط التهديدات الأمنية الناجمة عن التحولات في العالم العربي، وحث على تعديل النظرية الأمنية الإسرائيلية التي أرسيت أثناء عهد رئيس الوزراء الأول ديفد بن غوريون لتمكين الكيان الصهيوني من التعاطي مع تداعيات التحولات الإقليمية، مشددا على أنه يتوجب على إسرائيل استثمار جهود كبيرة في ردع أعدائها، في ظل صعوبة حسم الواجهات معهم.

كما أوصى المؤتمر بتعزيز التحالف مع الولايات المتحدة، على اعتبار أن الأخيرة تلعب دورا رئيسيا في مساعدة إسرائيل على مواجهة التهديدات الإستراتيجية. ووصف المؤتمر هذا التحالف بأنه “أهم كنز تملكه إسرائيل على الساحة الدولية، موصيا بأن تحرص إسرائيل على تعزيز تحالفاتها مع شركاء إقليميين، وأن تسعى لعقد المزيد من هذه التحالفات.

قصارى القول، وبغض النظر عن تأثير الاعتبارات الأيدولوجية والسياسية على المداولات، فإن مؤتمر “هرتسيليا 2015” دلل بشكل واضح على أن إسرائيل تواجه حالة من انعدام اليقين بكل ما يتعلق بمستقبل وجودها في هذه المنطقة.

صالح النعامي
الجزيرة