يعدّ كتاب “رأسمالية بلا رأسمال”، الصادر حديثاً عن “منشورات جامعة برينستون”، بمثابة تقريرٍ شامل عن تزايُد هيمنة الاقتصاد غير الملموس؛ حيث يذهب مؤلّفاه، الأكاديميّان البريطانيان جوناثان هاسكل وستيان وستليك، إلى أن ثمّة ثورة اقتصادية هادئة حدثت في أوائل القرن الحادي والعشرين، تمثّلت في توجُّه الاقتصادات الكبرى في الدول المتقدّمة نحو الاقتصاد غير الملموس، وذلك عبر الاستثمار، وبشكل أكبر، في قطاعاتٍ مثل التصميم، والبرمجيات، والعلامات التجارية، وبنحوٍ أقلّ الأصول الملموسة مثل الآلات والمباني وأجهزة الكمبيوتر.
وبحسب المؤلّفَين، فقد وجدت الأنشطة التجارية المختلفة، مثل شركات التكنولوجيا والأدوية والرياضة، في القطاعات غير الملموسة فرصةً مناسبة لتحقيق النجاحات على مدىً طويل.
لا يسرد الكتابُ القصّة التقليدية والمألوفة لما يُسمى بالاقتصاد الجديد فحسب، بل يتطرّق، أيضاً، إلى الدور الهام والمحوري الذي لعبته الأصول غير الملموسة في التحوُّلات الاقتصادية الكبرى التي شهدها العالم خلال العقد الماضي. ويرى المؤلِّفان أن الطفرة المتمثّلة في ارتفاع الاستثمارات غير الملموسة قد تكون السبب الذي يُفسَّر به عدد من الظواهر؛ مثل انعدام المساواة الاقتصادية وركود الإنتاجية.
يُقدّم هاسكل ووستليك، في كتابهما، خلاصة أبحاث استمرّت قرابة عشر سنوات عن كيفية قياس الاستثمار غير الملموس، وتأثير ذلك في عملية قياس مجمل النشاط الاقتصادي لدولة ما، كما يُقدّمان معلوماتٍ عن المبالغ التي استثمرتها بعض البلدان في الاقتصاد غير الملموس، وكيف تغيّر ذلك مع مرور الوقت، مستعرضَين أحدث الأفكار حول كيفية تقييم ذلك.
يُحاول العملُ استكشاف الخصائص الاقتصادية غير العادية للاستثمار غير الملموس، ومناقشة كيف أن هذه الميزات تجعل الاقتصاد غير الملموس والغني جدّاً مختلفاً بشكل جوهري عن اقتصادٍ قائم على الأصول الملموسة.
ومن الملامح اللافتة في الكتاب اقتراحُ مؤلّفَيه ثلاثة سيناريوهات محتملة لما يُمكن أن يبدو عليه مستقبل العالم غير الملموس، وكذلك حديثهما عن كيف يمكن للمديرين والمستثمرين وواضعي السياسات استغلال خصائص العصر غير الملموس في تنمية أعمالهم ومحافظهم واقتصاداتهم.
كما يُقدّمان أربع خصائص لفهم الاستثمار غير المادي وملامحه؛ أولاها ثبات تكلفته، فإذا لم ينجح الاستثمار في قطاع الاقتصاد غير الملموس، فليس للمستثمر أصولٌ مادية مثل الآلات التي يمكنك بيعها لاسترداد بعض أمواله، وثانيتها ميلُه إلى خلق آثار غير مباشرة يُمكن الاستفادة منها من قِبل الشركات المنافسة؛ فأكبر قوّة لدى شركة “أوبر” لنقل الركّاب، مثلاً، هي شبكة سائقيها، ولكن ليس من غير المعتاد مقابلة سائق سيارة “أوبر” الذي يختار أيضاً العمل مع شركة “ليفت”.
الخاصية الثالثة هي أن الاستثمار غير الملموس هو أكثر قابلية للتوسُّع مقارنةً مع الاستثمار الملموس، فبعد المصاريف الأوّلية للوحدة الأولى، يُمكن نسخ بقية المنتجات إلى ما لا نهاية.
أمّا الخاصية الرابعة، فهي وجود تآزر مع الاستثمارات غير الملموسة الأخرى، فمثلاً جهاز “آيبود” الذي تُنتجه “أبل” يجمع بين بروتوكول “MP3” الخاص بأجهزة الشركة الأميركية، وتصميم القرص الصلب المصغّر، ومهارات التصميم، واتفاقيات الترخيص الأخرى الخاصة بالشركة.
يتوزّع الكتاب على جزأَين يضمّ أوّلهما الفصول التالية: “صعود الاقتصاد غير الملموس”، و”قانون التلاشي الرأسمالي”، وكيف نقيس الاستثمار غير الملموس؟”، و”ما الذي يميز الاقتصاد غير الملموس؟”، بينما يضمّ الجزء الثاني هذه الفصول: “عواقب صعود الاقتصاد غير الملموس”، و”الاقتصاد غير الملموس: الاستثمار – الإنتاجية والركود العالمي”، و”الاقتصاد غير الملموس وصعود التفاوت”، و”البنية التحتية للاقتصاد غير الملموس”، و”التنافس والإدارة والاستثمار في الاقتصاد غير الملموس”، و”السياسة العامة في الاقتصاد غير الملموس: أسئلة صعبة”.
يقول بيل غيتس إن الاقتصاد غير الملموس يتمدّد بسرعة. ورغم أنه لم يحظ بعدُ بالاهتمام المطلوب، فإن تداعياته يُمكن ملاحظتها بوضوح في مجالاتٍ عدّة؛ بدءاً بقوانين الضرائب، مروراً بالسياسات الاقتصادية العامّة، ووصولاً إلى تأثيره في ازدهار مدن واضمحلال أخرى.
ويضيف صاحب ومؤسّس عملاق البرمجيات “مايكروسوفت” أن كتاب “رأسمالية بلا رأسمال” يُقدّم شرحاً وافياً عن آلية عمل الاقتصاد غير الملموس وأهميته التي تجذّرت بسرعةٍ في حياتنا.
ويستمر غيتس، في تعليقه على الكتاب، بالقول “إن ما يُعزّزه بالنسبة إليّ هو أن المشرّعين بحاجة إلى تعديل سياساتهم الاقتصادية لتعكس هذه الحقائق الجديدة. فعلى سبيل المثال، فإن الآليات التي تستخدمها العديد من البلدان لقياس الأصول غير الملموسة تعود إلى الماضي، لذا فإن هذه البلدان تحصل على صورة غير كاملة للاقتصاد؛ فبلدٌ مثل الولايات المتّحدة الأميركية لم يُدخل البرمجيات ضمن حسابات الناتج المحلّي الاجمالي حتى عام 1999. وحتى اليوم، فإن الناتج المحلّي الإجمالي لا يضع اعتباراً للاستثمار في مجالات الاقتصاد غير الملموس التي تُنفق عليها الشركات مبالغ ضخمة، مثل أبحاث السوق والعلامات التجارية والتدريب”.
وفي تعليقها على الكتاب ترى صحيفة “الغارديان” البريطانية، أنَّ أضخم سبع شركاتٍ في العالم من حيث القيمة السوقية اليوم، هي شركاتٌ تعمل في قطاع التكنولوجيا؛ فشركاتٌ مثل “ألفابت” التي تملك “غوغل”، و”فيسبوك” هي كيانات متخصّصة في منتجات لا يمكن رؤيتها في مساحة ثلاثية الأبعاد. كما أنَّ أُخرى مثل “أبل” و”أمازون” تبيع منتجات حقيقية وأخرى ذات صلة بالمفاهيم، بيد أن ثرواتها وهيمنتها على السوق تقوم في الأساس على مفاهيم غير مرئية مثل النماذج والعلامات التجارية والخوارزميات.
وتضيف الصحيفة أن الثروة لم تعُد تنحصر في المصانع وخطوط الأنابيب ومنافذ البيع بالتجزئة، كما أن رأس المال الخاص بالاقتصاد غير الملموس، لم يعد مرتبطاً بولاية قضائية معيّنة، ممّا يُصعّب من عملية تنظيمه وفرض الضرائب عليه. وتصف هذه التحوُّلات بأنها نمطٌ من العولمة الاقتصادية سبق الثورة الرقمية.
وفي قراءته لكتاب “رأسمالية بلا رأسمال” لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، يرى الصحافي والكاتب جورج ميلوان أن تفكيرنا حول طريقة وكيفية قياس رأس المال في عهد ما بعد الثورة الصناعية الذي نعيشه اليوم، يجب أن يتغيّر، ويجب أن نتخلّى، وإلى الأبد، عن آلياتنا القديمة التي كنّا نعمل وفقها.
ويضيف ميلوان، الذي ألّف عدداً من الكتب في المجال الاقتصادي أنَّ العصر الذي نعيشه شهد تحوُّلات كبرى، وأجبرنا على تغيير الكثير من أفكارنا، حتى صرنا لا نُصاب بأي دهشة عندما يُحدثنا مؤلِّفا الكتاب عن موضوعٍ مثل العلاقة التي تجمع بين الأغنية وشركة الطيران، فالاثنان – كما ينقل ميلوان عن الكتاب – “أصلان رأسماليان، وإن كان أحدهما أصلا ملموسا والآخر غير ملموس”.
يُجمع كثيرٌ ممّن قدّموا مراجعاتٍ للكتاب على أن أيّاً منّا، سواء كان زبوناً عادياً أو مستثمراً أو موظّفاً أو أحد واضعي السياسات، سيحصل من المؤلَّف على رؤىً جديدة حول أهمية رأس المال غير الملموس.
وفي النهاية، فإن “رأسمالية بلا رأس مال”، يُقدّم، كما يقول مؤلّفاه، عدسةً مكبّرة لرؤية الاقتصاديات الحديثة والديناميكية والمبتكرة، وفهم طريقة عملها في العالم ذي التطوُّرات المتسارعة الذي نحيا فيه اليوم.
العربي الجديد