اتخذ الحراك الشعبي في السودان وجهة جديدة نوعية، وقد تكون حاسمة بمقدار خطورتها أيضاً، وذلك حين اختار بعض عناصر الجيش حماية المتظاهرين أمام مجموعات من عناصر الأمن والمخابرات اقتربت منهم وحاولت تفريقهم عن طريق إطلاق القنابل الصوتية والرصاص الحي واستخدام الغاز المسيل للدموع. وهذا السلوك من جانب بعض أفراد الجيش يحمل دلالة خاصة بالنظر إلى احتشاد مئات الآلاف من أبناء الشعب السوداني أمام مقرّ القوات المسلحة في العاصمة الخرطوم، وهو أيضاً مبنى وزارة الدفاع ومقر إقامة الرئيس السوداني عمر البشير.
ومن المبكر المراهنة على انحياز الجيش السوداني إلى الحراك الشعبي الراهن وانضمامه إلى المطالب الشعبية، التي بدأت من غلاء الأسعار وتدني الظروف المعيشية ثم تطورت إلى شعار تغيير النظام ورحيل البشير. ذلك لأن الفئة العليا من الجنرالات وغالبية الرتب العالية تواصل ولاءها للنظام ورئيسه، لأن جوهر خيارها هذا مرتبط مباشرة بمصالحها وامتيازاتها وحصصها من ثروات البلد. ولكن ليس من المستبعد في المقابل أن يكون العكس هو موقف الرتب الوسطى أو الدنيا من ضباط الجيش، ليس لأنهم أكثر تحسساً لنبض الشارع الشعبي واقتراباً منه أو حتى انتماء إليه فحسب، بل كذلك لأن للجيش السوداني تاريخه الوطني الناصع الذي يوازي أو حتى يتفوق على الشطر الانقلابي والقمعي في العلاقة مع الشارع الشعبي.
وكان الفريق أحمد عبود قد قاد أول انقلاب عسكري في تاريخ السودان سنة 1958، فحل الأحزاب وعلق الدستور وفرض الحكم العسكري، لكن الجماهير التي تدفقت نحو القصر الرئاسي تحت شعار «إلى القصر حتى النصر» وانخرطت في سلسلة تظاهرات واعتصامات حاشدة أجبرت الفريق على التنحي في تشرين الأول/ أكتوبر 1964، فسجّل السودان يومذاك أول ثورة شعبية عربية وأفريقية تنتصر على نظام عسكري. كذلك فإن الاعتصام الراهن أمام مقر قيادة الجيش ومسكن البشير يرتدي قيمة رمزية إضافية، لأنه استهدف إحياء ذكرى انتفاضة السادس من نيسان/ أبريل 1985 التي أطاحت بنظام جعفر النميري الانقلابي واستعادت بعض مظاهر الحياة الديمقراطية في البلاد، وانطوت في حينه على تأييد من الجيش بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب.
وجدير بالإشارة هنا أن بعض مظاهر الخطورة في الحال الراهنة تتمثل في ردود أفعال النظام المنتظرة، وما إذا كان سيصعّد إجراءات قمع الاعتصامات والتظاهرات عبر أجهزة الأمن والمخابرات وكذلك بعض الكتائب العسكرية الموالية، الأمر الذي يمكن أن ينقل الانقسام الراهن في الجيش إلى طور المواجهة المباشرة بين الفئات الموالية للنظام على اختلاف صنوفها، وتلك التي انحازت إلى الشعب أو على الأقل رفضت استخدام العنف ضد الحراك الجماهيري. يزيد في تعقيد هذا المشهد أن النظام استقدم إلى العاصمة عدداً من أفواج ميليشيات الجنجاويد ذات السمعة السيئة والتاريخ الدامي، وأنها أخذت تدير حواجز التفتيش على الجسور والطرقات وتمارس مختلف أشكال التضييق والتنكيل.
بذلك فإن السؤال يظل معلقاً حول ما ستحمله الأيام القليلة المقبلة من تطورات على صعيد النظام والجيش والحراك الشعبي، وما إذا كان إحياء شعار «إلى القصر حتى النصر» محتملاً أو قائماً بالفعل.
القدس العربي