لم يكن الأكراد في المنطقة العربية الإسلامية في حاجة إلى أحداث أو وقائع ميدانية تعرف بحضورهم وثقافتهم، لكن هذا لا ينفي القول إن الأحداث الأخيرة التي استجدت في المنطقة، وما ترتب عنها من علو صوت الإرهاب والتطرف وغيرهما من الظواهر، ساهمت متضافرة في تسليط المزيد من الأضواء على الأكراد، سواء من ناحية معاناتهم السياسية أو من حيث ثراء مخزونهم الثقافي وإسهامهم الكبير في إثراء الثقافة العربية الإسلامية وإغنائها. ثراء الثقافة والمعاناة التي تعرض لها الأكراد، فرضا على الباحثين، من الأكراد وغيرهم، الاهتمام بهذه الهوية بغاية فهمها وتأصيل دورها الحضاري.
قال الناقد الكردي السوري إبراهيم محمود إن تزايد الحضور الكردي على الساحات المحلية والإقليمية والدولية دفع الباحثين للاهتمام أكثر بالدراسات الكردية وإحياء علم “الكوردولوجيا” (Kurdology) وهو حقل معرفي يختص بدراسة الهوية الكردية، وجودا وإنسانا ومجتمعا وثقافة، من المداخل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية والتاريخية والجغرافية والسكانية والأنثروبولوجية، وعبر رصد وتحليل البنى الثقافية والتراثية واللسانية والأدبية والفنية للشعب الكردي.
وأضاف في مقابلة مع “العرب” أن “الكوردولوجيا” تشمل كل ما كُتب ويُكتب عن الأكراد من باحثين لا ينتمون للهوية الكردية، وتاريخ المصطلح يمتدّ ليغطي نصوصا قديمة كالتي تركها المؤرخ اليوناني كسينوفون قبل الميلاد، وصولا إلى مؤلفات المسعودي في العصر الإسلامي ومن جاء بعده، ثم الباحثين الأوروبيين والعرب حديثا.
ويرى محمود، الباحث في مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية بجامعة دهوك، أن الشرط الجوهري في تصنيف النص المعرفي والبحثي ضمن إطار الدراسات الكردية أو الكوردولوجية هو أن يمثّل وجهة نظر غير كردية، وهذا يتطلب أن يكون الباحث غير كردي ويكتب من خارج الهوية الكردية كي يوصف بأنه من الكوردولوجيين.
وأشار إلى مفهوم “الاستشراق” الذي يشمل كل ما كُتب ويُكتب عن الشرق من منظور غربي؛ فلا يعدّ المؤرخ العربي عبدالله العروي مثلا مستشرقا في كتابته عن الثقافة العربية، بينما يصنّف المؤلفون الغربيون مثل لورانس كمستشرقين حين يتناولون هذه الثقافة أو أي ثقافة شرقية أخرى أخذا في الاعتبار انتماءهم الجغرافي والثقافي المغاير للانتماء الشرقي ووجهة النظر الغربية التي يعبّرون عنها.
واستطرد موضحا “وبالإفادة من تعريف الاستشراق فإن مفهوم الدراسات الكردية أو الكوردولوجيا يشمل الكتابات والنصوص التي تتناول مكونات الهوية الكردية من عادات وتقاليد ومعتقدات ومفاهيم ولغات ولهجات وسياسات وعلاقات، بشرط أن يكون الباحث منتميا لقومية مغايرة وثقافة أجنبية عن الهوية والثقافة الكرديتين”.
وهذا المعيار يشمل برأي ضيفنا باحثين ينتمون لقوميات شرقية وغربية متنوّعة؛ منهم مثلا العراقي البابلي شاكر خصباك والروسي باسيل نيكيتين والهولندي مارتن فان برونسن والتركي إسماعيل بيشكجي والفرنسي توماس بوا، إذ كتب كل هؤلاء في الشأن الكردي من زوايا متعددة وهم ليسوا من الأكراد.
ووفقا لتعريف علم الكوردولوجيا هذا لا يكون كل نص كوردولوجي استشراقيا بالضرورة لأن بعض الكوردولوجيين هم شرقيون أساسا، كما بيّن الناقد السوري الذي ركز في حديثه على دور “الخلفية القومية والثقافية” للباحث في تشكيل “علاقته” بالقضية التي يكتب عنها، لافتا إلى أن الكردي حين يكتب عن نفسه وهويته فهو لا يسمى “كوردولوجيا” بل له منحى وتصريف آخران سواء في الرؤية الأيديولوجية التي ينطلق منها أو في تقويم أو تقييم ما يكتبه.
ولا يرى محمود في ذلك طعنا في موضوعية الباحث الكردي الذي يكتب في شأنه القومي، ولكنه يعتقد أن زاوية النظر لدى هذا الباحث تكون مختلفة لأنها جزء من الثقافة والهوية القومية الكرديتين بمعنى حتمية حضور الجانب الذاتي في النص، وبالتالي فإن تلقي ما يكتبه وقراءته وتصنيفه تتم بطريقة تختلف عن نتاجات الآخر الأجنبي المتعلّقة بالشأن الكردي.
دور الخلفية الثقافية
ودعا محمود، وهو مؤلف كتاب “القبيلة الضائعة” الذي يتناول موضوع الأكراد في الأدبيات العربية والإسلامية، إلى مراجعات مستفيضة لقياس مدى اتصاف النصوص الكوردولوجية بمعايير الإنصاف والموضوعية ومستوى تأثير الجانب الذاتي والشخصي للباحث في تناوله للوقائع والحقائق، الأمر الذي يتطلّب- برأيه- التركيز على رؤية الباحث وخلفيته الثقافية والأيديولوجية وزاويته التي اعتمدها في المقاربة النقدية أو المتابعة الميدانية، إلى جانب تحليل موضوع الدراسة وطبيعته ومصادره ونوعيتها، وهل اعتمد الباحث على المؤلفات السابقة فقط أم خاض غمار المعايشة والاحتكاك اليومي مع الثقافة الكردية، فكل هذه العوامل يعتقد محمود أنها مؤثّرات تلون رؤية الباحث للشخصية الكردية؛ ما يجعل علم الكوردولوجيا من وجهة نظره تنويعات ومقامات مختلفة وليس نمطا دراسيا واحدا.
وللتعمّق في مفهوم الدراسات الكردية حضرت “العرب” المؤتمر الذي عقدته جامعة نوروز في مدينة دهوك بمشاركة باحثين عراقيين وعرب وغربيين قدّموا أكثر من 40 بحثا تتناول الشأن الكردي عبر تخصصات التاريخ والجغرافيا والآثار والأدب واللغويات والإسلاميات والتراث الشعبي والاجتماع والإعلام والسياسة.
وكانت المحاضرة الأولى في المؤتمر للباحث مارتن ليزنبرغ من جامعة أمستردام الذي قدّم قراءة للأدب الكلاسيكي في العالم الإسلامي عبر مراجعة رواية كردية تراثية بالانطلاق من مدخل إشكالي هو التاريخ المفاهيمي والثقافي لـ”الجنسانية” وهو مصطلح يستعمل للإشارة إلى حزمة الأفكار والرغبات والانفعالات والسلوكيات المرتبطة بالهوية والعاطفة الجنسيتين للأفراد.
واتخذ ليزنبرغ من ملحمة “مم وزين” للشاعر الكردي أحمد خاني (1650-1707) مجالا لدراسته هذه، وأفاد لـ”العرب” بأن اللافت في هذه الملحمة المكتوبة بالشعر المثنوي (أسلوب يشترك كل شطرين فيه بقافية واحدة) أنها “تتسم بالانفتاح والصراحة حول مختلف جوانب الحب والعاطفة الجنسية”.
وعلاوة على ذلك، يضيف الباحث، فإن الأعراف والمفاهيم التي قاربتها الملحمة كانت تختلف كثيرا عن الوقت الحاضر، فما يعتبر اليوم من المحرمات و”التابوهات الثقافية” لم يكن كذلك في الماضي، وهذه الملاحظة يسجّلها ليزنبرغ حيال الكتابات الكلاسيكية العربية والتركية والفارسية أيضا.
وأوضح ليزنبرغ أن دراسة التراث الثقافي والأدبي للشعوب تكتسب أهمية كبيرة في الوقت الحاضر لمواجهة الصراعات الدينية والإثنية التي تجتاح العالم، لأن أصحاب الهويّات المتصارعة لو عادوا للتاريخ لوجدوا أن الكثير من المشتركات تجمع بينهم، فرواية “مم وزين” مثلا التي نحن بصددها تضم خليطا من المفردات العربية والفارسية بجانب المفردات الكردية، بمعنى أننا إزاء حالة من التمازج الثقافي التي يمكن لفهمها أن يساعدنا في مراجعة الحساسيات القومية والإثنية التي نواجهها اليوم في المنطقة.
وقالت الباحثة بيان أحمد حسين من جامعة دهوك لـ”العرب” إن الأدب هو ذاكرة الشعوب، ومنه يمكن استقراء التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجاميع الإثنية المختلفة.
وأضافت أن الأدب الكردي هو جزء من الأدب الإنساني والشرقي وله خصائص وسمات وبنية لغوية مميزة يمكن تشخيصها ولذلك يحتل النقد الأدبي موقعا مهما في الدراسات الكردية.
وبيّنت بيان أحمد حسين أن الأدب مثل وعاء ينقل تفصيلات الهوية الثقافية الذاتية ويعرضها للآخرين، فالأدب النسوي الكردي مثلا يعبّر عن موقع المرأة في البناء الاجتماعي الكردي كما في أعمال مستورة الأردلانية وهي شاعرة ومؤرخة كردية عاشت في القرن التاسع عشر.
أما الباحث العراقي فاضل أحمد حسين فقال لـ”العرب” إن الحضارة الإسلامية كانت بوتقة للتنوع الثقافي، ولكن الاعتبارات السياسية وحسابات السلطة كانت دائما تحاول إبراز دور الأكراد وغيرهم من المكونات الإثنية في نهضة هذه الحضارة، لافتا إلى حضور واضح ومبكر للأكراد في التاريخ الإسلامي، مثل الصحابي جابان الكردي وابنه ميمون ودورهما في رواية الحديث النبوي، كما أشار إلى دورهم في الحياة السياسية والاجتماعية خلال العهد العباسي وصولا إلى الدولة العثمانية، مؤكدا على إسهامات الأكراد الحضارية في أزمنة مختلفة من خلال شخصيات دينية وثقافية وسياسية ثبت انتسابها للهوية الكردية عرقيا أو جغرافيا.
التاريخ من منظور حضاري
وشدّد الأكاديمي العراقي في دراسته على أهمية دراسة التاريخ بشكل شامل ومتكامل وعبر “منظور حضاري” يأخذ في الاعتبار الجوانب الثقافية والاجتماعية، ولا يقتصر على الأبعاد السياسية والعسكرية، مستعرضا سيَر شخصيات كردية أغنت الحضارة الإسلامية في المجالات الثقافية والعلمية والروحية مثل الموسيقي زرياب الذي يعني اسمه في اللغة الكردية “ماء الذهب” والنحوي والمؤرخ أبوحنيفة الدينوري والصوفي أبوالقاسم الجنيد والمؤلفين غزيري الإنتاج مثل الحسن بن بشر الآمدي وشهاب الدين السهروردي والإمام الحافظ المفتي الفقيه ابن الصلاح الشهروزي والمؤرخ ابن خلكان والعالم ابن الحاجب النحوي والسياسي والمؤرخ أبوالفداء الأيوبي.
كما أشار حسين، وهو أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة ديالى، إلى كوكبة من الشعراء الأكراد الذين أثروا الأدب العربي بمنجزهم الإبداعي مثل أحمد شوقي ومعروف الرصافي وبلند الحيدري، فشكّلت تجربتهم نموذجا للتفاعل المثمر بين الثقافتين العربية والكردية.
وقال الباحث إبراهيم سيدو أيدوغان من المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في باريس إن الدراسات الكردية هي ميدان معرفي واسع وعابر للتخصصات، معتبرا الإلمام باللغة الكردية عاملا أساسيا في رصانة هذا النمط من الدراسات التي تتعلّق بمسائل الهوية والثقافة.
واتفق أيدوغان، في حديثه لـ”العرب”، مع رأي الناقد إبراهيم محمود في ضرورة أن تتسم هذه الدراسات بالموضوعية والحياد والتحرر من القناعات المسبقة والنظرة الذاتية؛ ولكنه اختلف معه في اشتراط أن يكون الباحث “غير كردي” كي يوصف بأنه “كوردولوجي” أو يُنسب نصه للكوردولوجيا. إذ يرى أيدوغان أن انتماء الباحث للقومية الكردية إنما يشكّل قيمة داعمة للدراسات الكردية.
وأشار إلى قصور دراسات ميدانية أجريت منذ عقدين حول المجتمعات الكردية ولكن الباحثين كانوا من غير الأكراد ولا يتقنون اللغة الكردية؛ في حين أن هذه الدراسات تحتاج برأيه إلى تعمّق في الثقافة وفهم للعقل الاجتماعي، وليس حتى مجرد إتقان اللغة أو مقاربة الأمور بصورة سطحية، دون أن ينكر وجود دراسات كوردولوجية استشراقية مفيدة أنجزها باحثون من غير الأكراد.
ودعّم أيدوغان وجهة نظره المنحازة لكتابة باحثين أكراد عن الشأن الكردي بالإشارة إلى ما توصّل إليه الأكاديمي الكردي دلشاد علي من جامعة السليمانية في بحثه في المؤتمر حين فنّد رأي المستشرق مارتن فان برونسن الذي كان يقول إن الفكر القومي ليس أصيلا في أعمال الشاعر الكردي أحمد خاني، وأنه أقحم عليه في مرحلة تاريخية لاحقة في حين أن مراجعة المخطوطات التراثية كما أثبت علي تؤكد عكس هذه الفرضية.
ولفت الأكاديمي الفرنسي من أصول كردية إلى ظهور دراسات كوردولوجية جديدة تحاول معالجة القصور المعرفي في الدراسات السابقة وما عانت منه من فجوات علمية واختلالات منهجية من أجل الوصول إلى نتائج أكثر انضباطا، وهي دراسات يقوم بها باحثون من الأكراد والمستشرقين على حد السواء.
أما الباحث العماني إسماعيل الزدجالي فحذّر في حديثه لـ”العرب” من طغيان الخطاب الأيديولوجي على المنهج العلمي في دراسة الهويات الإثنية والثقافية لأسباب تتعلّق بانتماءات الباحثين القومية أو مصالحهم السياسية والمادية. كما أن الدراسات الاستشراقية حسب تصور الزدجالي لم تكن في كثير من الأحيان أمينة في تناول قضايا منطقتنا وما تتسّم به من تنوّع وتعقيد؛ بل كانت جزءا من مشاريع سياسية وتبحث عن مكاسب وانزلاقات إلى التضليل.
وأوضح أن الظواهر الإثنوغرافية والكشوفات الإثنولوجية ليست هي التي تحكم واقع المكونات الإثنية، بل العوامل الجيوسياسية والتجاذبات الإقليمية والدولية، وهذا ما حصل في اعتقاده مع المكون الكردي ذلك أن المنطقة الكردية كانت عبر التاريخ مجالا لصراعات سياسية واقتصادية بين القوى الإمبراطورية المهيمنة.
وبيّن الزدجالي الذي قدّم في المؤتمر دراسة بعنوان “مقدمة في تاريخ الأكراد” أن المكونات الإثنية إذا أرادت إنصاف نفسها فعليها أن تكون لها مبادراتها البحثية المستقلة والموضوعية في دراسة هوياتها وثقافاتها والتعريف بها بمنهجية علمية محايدة.
وأكد أن تعزيز وتطوير النموذج التنموي في إقليم كردستان العراق هو أفضل سبيل للتعريف بالهوية القومية للأكراد. ومن ضيوف المؤتمر كان الأكاديمي الكويتي طارق أحمد ملك الذي أشار في حديثه لـ”العرب” إلى أن الثقافة الشرقية أوسطية تتسم بنوع من التماثل والتشابه على الرغم من اختلاف اللغات واللهجات والبيئات، فهناك قيم وتقاليد مشتركة بين الثقافتين الخليجية والكردية مثلا.
وأضاف أن إلمام الكثير من الأكراد في العراق باللغة العربية يسهّل عليهم التواصل الثقافي على الصعيدين المحلي والإقليمي، مشدّدا على ضرورة توسيع مجالات اللقاء والتعارف والتفاهم بين الهويات الإثنية والثقافية المختلفة في المنطقة ضمن أطر علمية منفتحة وشفافة وموضوعية لما في ذلك من منافع ومكاسب معرفية وحضارية وحتى سياسية واقتصادية للأطراف كافة في إطار رؤية للحوار الثقافي تصبّ لصالح خير شعوب المنطقة ورفاهها.
العرب