تمثل الحراكات الكبرى كالحراك السوداني والجزائري المدخل لبروز قادة جدد وشخصيات عامة جديدة. ما يقع في قلب ريف ومدن السودان عبر شهور 2019 تعبير عن مجتمع في طور التغير والتحول. فعندما ينزل شعب لميدان التعبير السلمي في مواجهة دبابات وأجهزة أمنية تتميز بالقدم والشراسة ولديها كل القدرة على ممارسة البطش والاعتقال تكون مرحلة كسر حاجز الصمت الذي تم بناؤه على مدى عقود قد بدأت. ويعزز تحمل الناس والمجتمع إدامة حراك سياسي شعبي الشعور الواضح بأنهم يحملون قيما أخلاقية تنشد إصلاح الدولة والاقتصاد وإيقاف الفساد وضمان حرية المواطنين. إن البعد الأخلاقي والشعبي للحراك الذي يتصدى للإقصاء والظلم هو الذي يخلق حالة التفاف شعبية كبرى مساندة لمجموعات الاحتجاج.
في الحراكات الكبرى تشعر الناس بمشاعر التحرر من القيود. فعلى سبيل المثال في بدايات الثورة السورية في 2011 صدرت عشرات المجلات والنشرات والصحف وعشرات الإذاعات والتلفزات الجديدة وشعر كل مواطن من خلال التنسيقيات بأنه يمارس حريته ويبدع من خلال اختيار طرق تعبير جديدة. لكن تسلح الثورة أضعف هذا الجانب القيمي والإبداعي في الثورة السورية.
وفي هذا نجد أن الحراك السوداني ثم الجزائري سارا في طريق تعميق التحرر الوطني والإنساني السلمي، ولهذا تمثل هذه الحراكات شكلا من أشكال الاستقلال الثاني. جوهر الحراكات نجده في حالة التمرد على الصمت والعزلة التي فرضتها عقود من الإقصاء. في هذا تلتقي القوى الشابة مع الطبقة الوسطى والشعبية لقيادة احتجاجات سلمية تنطلق أساسا من المقدرة على بناء مصادر جديدة للقوة تعتمد على الشعب وتحركه في مواجهة القوة متفوقة عليه عسكريا وأمنيا.
إن أحد العوامل التي تبقي هذه الحراكات لمدد طويلة وتسهم في بناء آلياتها وتنظيمها هي حالة الدهشة والمتعة التي يشعر بها كل من يشارك في سيرورتها. هذا ما لا تنتبه إليه السلطات التي تنظر للظاهرة من الخارج. ففي هذه الحراكات شعور بولادة جديدة ومتعة في التعرض للمصاعب. إن الشجاعة والتعلم والحكمة والمعرفة الجديدة لبناء مساحات عامة حرة لا تخضع للجيش والأمن في كل الميادين وفي الأحياء تتحول لقوة دفع. إن أمل التخلص من القمع والظلم يحرك الناس بما يتجاوز التوقعات. هذا ما يفسر كيف استمر الحراك السوداني والجزائري بالرغم من حرارة الصيف وبالرغم من شهر رمضان.
الحراك السوداني ثم الجزائري سارا في طريق تعميق التحرر الوطني والإنساني السلمي ولهذا يمثلان شكلا من أشكال الاستقلال الثاني
لكن لينجح النضال السلمي بالاستمرار لا بد من تطوير الانضباط والتنظيم وفرز قادة ميدانيين جدد في ظل القدرة على طرح شعارات مرحلية تصل لكل قطاعات الناس من كل الخلفيات وفي كل المواقع. إن المرونة في عمل الحراكات والمرونة في رفع الشعارات لبناء جبهة تأييد واسعة بهدف إنجاز التحول الديمقراطي والتغيير السلمي يعزز فرص استمالة قطاعات من الجيش لديها كل المصلحة في انتقال سلمي للسلطة.
ان الوضع الراهن يؤكد استمرار الحراك السوداني والجزائري وذلك لأن كلا النظامين لم يقتنعا بعد بضرورة انتقال سياسي ديمقراطي شفاف. كما أن السعي لقتل الحراك في السودان من خلال ارتكاب مجزرة كما حصل في بداية يونيو/حزيران الجاري زاد الشعب السوداني تمسكا بحراكه. لن يكون بالإمكان التعامل مع الحراك الجزائري والسوداني بالقوة أو بدعوة النظام لحوارات فضفاضة هدفها الالتفاف على مطالب الحراك بلا تأمين توازن يسمح بالانتقال للحكم المدني وانسحاب العسكريين للثكنات. لهذا يستمر الحراك حتى لحظة وقوع توازن، بل وحتى لحظة اقتناع جانب مؤثر من النخبة في الجيش والقوى الأمنية بضرورة الدخول في عملية تحول ديمقراطي.
لقد وصلت الشعوب العربية في هذا المرحلة خاصة في الدول التي تتحكم فيها الجيوش لطريق مسدود. لقد جاء حكم الجيوش للدول العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. كانت الجيوش بعد زوال الاستعمار المباشر المدخل لتعليم أبناء الطبقات الشعبية من خلال كلياته العسكرية. ففي أربعينيات القرن العشرين لم تكن الطبقات الريفية والشعبية تحظى بالتعليم بسبب الغلاء وبسبب عدم توفر التعليم للطبقات الشعبية، لهذا كان الجيش والكلية العسكرية هو المدخل لنيل التعليم الجامعي خاصة لأبناء الريف. وقد تحولت الجيوش في بداية الاستقلال في عدد كبير من الدول العربية للمكان الذي يسهم في بناء الهوية الوطنية الجامعة والدفاع عن الاستقلال والارض.
وعبر عقود النصف الثاني من القرن العشرين ومن خلال عقدي القرن الواحد والعشرين وليومنا هذا فقدت الجيوش قوتها واهتزت مكانتها ولم تعد قادرة على تشغيل الاقتصاد وبناء المجتمع. كما فقدت الجيوش قوتها بفضل الاستبداد والفساد تغيرت الشعوب وازدادت تعليما ومعرفة ووعيا. لقد أفسدت ممارسة السلطة قيادات الجيوش العربية وأفقدتها قدرتها على الدفاع عن وحدة الوطن واستقلاله بل جعلتها تتمسك بالامتيازات والسلطة على حساب كل ما هو مرتبط بمهامها ودورها الاحترافي. بل أصبحت المؤسسة العسكرية المنغمسة بالمغانم والامتيازات والتجارة غير قادرة على إدارة نفسها.
في الحالتين الجزائرية والسودانية أصبح الجيش والأسلوب الأمني في الحكم في جانب والشارع والشعب ومطالبه الأخلاقية في جانب آخر. لم يمنع ذلك أن عناصر فاعلة في الجيوش و قياداتها تؤمن بضرورة التأقلم، لكن عناصر أخرى فاعلة ومؤثرة في الجيوش تخشى من فقدان امتيازاتها. تلك العناصر القيادية الاستبدادية في الجيوش تحلم بالثورة المضادة وفي التحول لسد مضاد للتغير، بينما في الجهة الأخرى تتطلع قواعد الشعب الثائرة ليوم مختلف ولنظام سياسي يحترم الناس ويستمد شرعيته من قبولهم به. صراع الجيش مع الجيش والجيش مع الشعب بالكاد بدأ في السودان والجزائر. لقد دخل إقليمنا في 2011 في عاصفة التغيير ولا يزال فيها.
القدس العربي