في مشهد أشبه بفرض حظر طيران جوي، اتجهت شركات طيران عالمية إلى إعلان تغيير مسار رحلاتها لتجنّب الأجواء التي تسيطر عليها إيران عبر مضيق هرمز وخليج عمان، وذلك بعدما أعلنت إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية “منع تحليق رحلات الخطوط الأميركية في الأجواء الإيرانية”.
قرار السلطات الأميركية بحظر المرور عبر الأجواء، التي تسيطر عليها إيران جاء بعد أن “أسقطت طهران طائرة أميركية مسيّرة من ارتفاع عالٍ للغاية، عن طريق صاروخ سطح جو”.
وأكدت أميركا أن “الطائرة دون طيار التي أسقطتها السلطات الإيرانية بزعم اختراقها مجالها الجوي، كانت على مقربة من طائرة تقل مدنيين، وهو ما أثار بطبيعة الحال مخاوف شركات الطيران التجارية بشأن سلامة رحلاتها”.
وفي تحذير منفصل للمشغلين، قالت إدارة الطيران الفيدرالي الأميركي (FAA)، “طبقاً لتطبيقات تتبع الرحلات الجوية فإن أقرب طائرة مدنية كانت تُحلّق على بعد نحو 45 ميلاً بحرياً من طائرة غلوبال هوك الأميركية دون طيار عندما أسقطت بصاروخ إيراني هذا الأسبوع”.
وصباح الجمعة، أعلنت شركة طيران الإمارات والخطوط الجوية الماليزية، والأسترالية (كانتاس)، والسنغافورية، وشركة لوفتهانزا الألمانية، والخطوط الجوية البريطانية، وكيه. إل. إم الهولندية، أنها تحوَّل مسار رحلاتها لتجنب المنطقة.
إسقاط الطائرة الأميركية دون طيار يعدُّ تطوراً جديداً في التوترات المتصاعدة بين واشنطن وطهران، منذ مطلع مايو (أيار) الماضي، عندما أنهت الولايات المتحدة الاستثناءات التي كانت تمنحها إلى ثماني بلدان مستوردة النفط الإيراني من العقوبات الاقتصادية، بهدف وصول صادرات إيران من النفط إلى (صفر) يومياً.
اعتراف إيراني
إعلان طهران إسقاط الطائرة يأتي كأول اعتراف من إيران بعملٍ ضد الولايات المتحدة، إذ نفت مسبقاً مسؤوليتها عن تخريب أربع ناقلات نفط قبالة سواحل الإمارات، في 12 مايو (أيار) الماضي، الذي أفضى إلى تحرّك إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وإرسال حملة الطائرات الأميركية “يو إس إس أبراهام لينكولن” ومجموعتها الهجومية إلى المنطقة.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بشكل صريح، “التحرك يأتي بعد تلقي مؤشرات واضحة بأن هناك تهديدات إيرانية ضد القوات الأميركية بمناطق عدة وفي البحار”.
الجبير: ندرس مع حلفائنا خيارات الرد على اعتداءات إيران
ومنذ ذلك الحين اشتعلت التصريحات، وهدد الرئيس الأميركي مراراً بخيار الحرب، ثم هدأت وتيرة التهديدات بين الطرفين، وتحوَّلت إلى دعوات ضمنية للحوار مع عودة إلى التهديد بين الحين والآخر.
في هذه الأثناء لم تتوقف التوترات بالمنطقة، ولوَّحت طهران بالانسحاب الجزئي من الاتفاق النووي، واستهدف المتمردون الحوثيون في اليمن، المدعومين من إيران، منشأة نفط سعودية، وفي 12 يونيو (حزيران) استهدف هجوم حوثي آخر مطار (أبها) السعودى، أسفر عن إصابة 26 من المدنيين.
وتكرر هجوم آخر على ناقلتي نفط بخليج عمان، في 13 يونيو (حزيران) الحالي، يشبه سابقه، متخذاً الطريقة القديمة التي استخدمتها الدولة الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي خلال حرب الخليج الأولى.
وسرعان ما خرج الرئيس الأميركي ليوجه أصابع الاتهام إلى طهران، ونشر البنتاغون فيديو وعلق قائلاً “زورقٌ إيرانيّ ينزع ألغاماً بالقرب من إحدى الناقلتين”.
وأشار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى أن “الاتهام كان بناءً على معلومات استخباراتية، فضلاً عن أن الأسلحة المستخدمة ومستوى الخبرة اللازمة لتنفيذ العملية يشيران إلى إيران”، مؤكداً أنه “لا توجد ميليشيا قادرة على شن مثل هذه الهجمات المتطورة”.
التراجع عن ضرب إيران
صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية أشارت إلى أن الرئيس ترمب وافق، أمس الخميس، على توجيه ضربة عسكرية إلى ثلاثة مواقع مختلفة في إيران، رداً على إسقاط الطائرة دون طيار، لكنه تراجع قبل الموعد المحدد للهجوم بعشر دقائق، إذ “أُبلغ أن 150 شخصاً سيلقون حتفهم”.
وقال الرئيس الأميركي “الولايات المتحدة فرضت مزيداً من العقوبات على إيران ليلة أمس”، مشدداً مجدداً على أنه “لا يمكن لإيران أن تحصل على أسلحة نووية”.
التطورات الماضية والأعمال العدائية المتزايدة من الجانب الإيراني، أثارت مراراً ترقّب الكثيرين لرد الفعل الأميركي، لكن يبدو جلياً أن إدارة ترمب لا ترغب في “خوض حرب” حتى وإن كان الصقور داخلها، وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي الأميركي، يدفعون إلى ذلك.
إذا كان ترمب لا يرغب في الحرب، فما خياراته لتحقيق مساعيه في الإتيان بالقيادة الإيرانية على طاولة الحوار للتفاوض حول شروط جديدة تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني؟ وما مساعيه لحفظ ماء الوجه في ظل وعيده وتهديده النظام الإيراني؟
اعتمدت سياسة الرئيس الأميركي منذ الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018، على الضغوط الاقتصادية، إذ وصلت تقريباً إلى أقصاها الشهر الماضي، عندما أنهى رسمياً الاستثناءات التي كانت تمنحها الإدارة الأميركية إلى ثماني دول مستوردة النفط الإيراني من العقوبات الاقتصادية، ومن ثمَّ دفع بالاتجاه نحو وصول صادرات إيران من النفط إلى “صفر”.
وفي وقت لاحق، الشهر الحالي، فرض عقوبات استهدفت قطاع البتروكيماويات الإيراني، بما في ذلك أضخم مجموعة بتروكيماويات قابضة.
ورغم قسوة العقوبات على الاقتصاد الإيراني، فإنه لا يبدو أنها ستدفع النظام إلى “طاولة المفاوضات”، بل فضّلوا سلك طريق الهجمات في الممر العالمي الاستراتيجي، وتهديد حركة تجارة النفط عالمياً.
ضربة على غرار سوريا 2018
بالعودة إلى أبريل (نيسان) 2018، عندما وجَّه الرئيس الأميركي ضربة عسكرية محدودة لمواقع ومقرات عسكرية في سوريا رداً على هجوم كيماوي في دوما، وجّهت فيه أصابع الاتهام إلى حكومة الرئيس بشار الأسد، فربما يقوم ترمب بتحرك مماثل ضد إيران.
يقول إيام جولدينبرجر مدير برنامج أمن الشرق الأوسط لدى مركز الأمن الأميركي الجديد، “ليس هناك شكّ في أنه خلال الأيام المقبلة ستكون هناك أصوات داخل واشنطن والإدارة الأميركية تضغط من أجل ضربة توجه إلى المنشآت الإيرانية، بشكل مشابه للضربات المحدودة، التي أمر بها ترمب ضد الأسد، بدعوى أن إيران لن ترد وهو المنطق نفسه الذي سُوِّق له عندما انسحب من الاتفاق النووي، وممارسة أقصى قدر من الضغط الاقتصادي”.
ويضيف، “إيران ليست سوريا التي دمَّرتها سنوات الحرب الأهلية، إذ لديها القدرة على الرد بقوة، وعلى الأرجح سترد من خلال شن الهجمات على القوات الأميركية، أو مزيد من الأعمال البحرية العدوانية، أو إطلاق الصواريخ على القواعد العسكرية بدول الخليج”.
وتابع جولدينبرجر “هذه اللحظة تحتاج إلى الحِكمة لعدم إغراق الولايات المتحدة في حرب أخرى بالشرق الأوسط”.
ويقول جيمس روبينز الزميل لدى مجلس السياسة الأجنبية الأميركية، “في ظل إصرار إيران على نفي مسؤوليتها عن الهجمات، فمن المهم للولايات المتحدة وغيرها من الدول تقديم أدلة دامغة على السلوك الإيراني الخبيث، الذي يستوجب ردعه في المستقبل”.
ويضيف “فضح طهران أمام المجتمع الدولي من شأنه أن يساعد في تبرير الضربات المضادة إذا استمرت إيران في حملة المضايقة هذه، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه الرئيس الأميركي الأسبق، دونالد ريغان، خلال حرب الناقلات بين إيران والعراق قبل أكثر من 30 عاماً”.
العودة للمفاوضات تحت ضغط
وبالنظر إلى تكلفة الحرب التي بالتأكيد لا تريد إيران تكبّدها، فضلاً عن صعوبة تحمّل الاقتصاد الإيراني مزيداً من العقوبات، فستعود طهران إلى خيار المفاوضات، لكن ربما تستخدم هذه الهجمات كمناورة لعدم التفاوض تحت الضغط.
يقول دينيس روس المساعد الخاص السابق لأوباما والزميل لدى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، “تاريخ إيران يشير إلى عكس ذلك، فعندما كانت الضغوط الخارجية تتنامى إلى حدّ كبير، وتعرّض الاستقرار المحلي للخطر كانت القيادة الإيرانية تبحث عن وسيلة للتخفيف منها، ومن التكاليف المرتبطة بها. وهذا ما حدث عندما قررت إنهاء الحرب مع العراق عام 1988، ووقف اغتيال المنشقين في أوروبا في تسعينيات القرن الماضي عند تهديدها بالعقوبات، وعرضها تسويةً نووية في عام 2003 بعد ثلاثة أسابيع من هزيمة الجيش العراقي على يد القوات الأميركية، حين خشى الإيرانيون أن يكونوا هم التاليون”.
ويضيف “في عام 2012 وافقت إيران على التواصل مع الولايات المتحدة عبر قنوات خلفية بعد أن عملت إدارة أوباما على تشديد العقوبات على المصرف المركزي الإيراني، وتوقّف الأوروبيون عن شراء النفط الإيراني”.
ومع ذلك يشير إلى أن “الإيرانيين يريدون انتظار انتهاء فترة رئاسة ترمب والتعامل مع خَلَفه. وهذا ما يفضّله خامنئي بشكل شبه مؤكد، لكن الكثير يتوقّف على مقدار الصعوبات الاقتصادية التي يُعتقد أنه يمكن للشعب الإيراني تحمّلها. وإذا شعر خامنئي بأنه يجب عليه أن يخفف الضغط، ويختار الدخول في مفاوضات، فمن المؤكد أن تكون المحادثات غير مباشرة، فالمناقشات المباشرة ستكون بمثابة اعتراف بالهزيمة، ومن ثم استخدام وسيط على غرار فلاديمير بوتين”.
اندبندت