هل أنت جزائري؟ إذا كانت الإجابة بنعم فهي غير كافية، سيتلوها سؤال آخر: عربي أم أمازيغي؟ مهما كان الرد سيستوجب عليك تقديم شروحات، لماذا تنتمي إلى تلك الجماعة وليس الأخرى. لقد صدرنا صورة قاتمة عن صراعاتنا الهوياتية إلى الخارج، فاحت رائحتها وبات تُشم على بعد الآلاف من الكيلومترات.
منذ مجيء أحمد بن بلة إلى السلطة، وهو يحمل ماركسية عرجاء على كتفيه، انفتحت مغارة الخلافات الإثنية، حول معركة ضد حسين آيت أحمد ـ أحد القادة التاريخيين في ثورة التحرير ـ وأنصاره في منطقة القبائل، من مسألة سياسية إلى قضية عرقية، وجاء من بعده بومدين ـ الذي يؤمن بسلطة البارود لا الحوار ـ وسار على نهج سابقه، بدون أن يقر بذلك، وأراد أن يحول الجزائريين كلهم إلى عجينة واحدة، يسهل التحكم فيهم، بمحو ماضيهم وتنوعهم وتجاهل الفروقات التي تؤسس ترابطهم. أما الشاذلي بن جديد فقد منع الصحف والتلفزيون من استخدام كلمة «أمازيغية» وقمع الربيع البربري في 1980، ووصفه ﺑ «شغب مراهقين»، وكانت عشرية الدم في التسعينيات لحظة نظمت الجميع في صف واحد، مثلما فعلت ثورة التحرير قبلها، فالموت حينها لم يكن يفرق بين عربي أو أمازيغي. أما بوتفليقة، وتحت ضغط ربيع أسود (2001)، سقط فيه ما لا يقل عن مئة ضحية، انصاع ـ مرغماً ـ إلى اعتماد الأمازيغية لغة دستورية، ولاحقاً صار رأس السنة الأمازيغية عطلة مدفوعة الأجر.
سقط بوتفليقة، واتسعت رقعة الحراك الشعبي منذ 22 فبراير/شباط الماضي، ودخل العسكر على الخط، فعادت النقاشات إلى نقطة الصفر. اعتقلت الشرطة شباباً حملوا راية الأمازيغ، التي تتداولها الأيادي منذ عقود بدون حرج، وتجددت معركة الهوية في الجزائر، فهل يمكن أن نتجاوز السؤال الذي بدأ منه المقال، ونعتبر تنوعنا الإثني رأسمال لا محرك نزاعات عابرة؟ حين يُعلن أحدهم عن أمازيغيته ويُجاهر بها، فهو لا يتحدث سوى عن جزء من هويته، عن قطعة من بازل، يخبرنا عن انتماء إلى عائلة وفضاء اجتماعي، وإلى عادات وثقافة نشأ فيها، ولا يعني من انتمائه ذلك إعلان حرب على ما هو مُختلف عنه، ولا معارضة للأغلبية التي ليست لها جذور أمازيغية. الأمازيغية هي أرض وتاريخ وعرق وشريان يسري في تكوين هوية فرد ما، وهي إضافة ومكسب له، يسمح له بالنظر للعالم من نافذتين، بدل نافذة واحدة لمن لا ينتمي سوى لجهة وحيدة. الأمازيغي يحدد موقع مولده، ويُعلمنا من أين جاء، ولا يعني ـ مطلقاً ـ أنه يود أن يفرض على الآخر منظوراً مخالفاً للعالم الذي يحيط بنا.
لكن التجربة الاجتماعية، في الجزائر، تعلمنا أنها لا ترى سوى بعين واحدة، ولا تميل للمغامرة ولا للاكتشاف أو التجريب، لذلك يتجدد كل مرة خطاب كره وشيطنة للمكون الهوياتي الأمازيغي، باعتباره مخالفاً للغالبية. لكن من هي الغالبية؟ ليست، طبعاً، غالبية ديمغرافية تتعايش مع الأمازيغية من قرون، بدون حرج، إنما هي غالبية سلطوية، كلما تغلب جناح سياسي على آخر، طرأ سؤال الهوية، وأخرجوا صدماتهم من مكاتب مكيفة إلى الشارع، وهم يتفرجون على أبناء الشعب وهم يتصادمون ويتنابزون بالهويات.
التجربة الاجتماعية، في الجزائر، تعلمنا أنها لا ترى سوى بعين واحدة، ولا تميل للمغامرة ولا للاكتشاف أو التجريب، لذلك يتجدد كل مرة خطاب كره وشيطنة للمكون الهوياتي الأمازيغي، باعتباره مخالفاً للغالبية.
كانت السلطة، في وقت سابق، تشعل نيران الهويات، وتنتظر وقتاً كي تستعر، وتؤتي أكلها، أما اليوم فقد صارت العملية سهلة، يمكنها أن تلقي عود كبريت في مواقع التواصل الاجتماعي، أن يصدر من مسؤول كبير تصريح جارح، أو يبلغ الأسماع انزلاق لفظي من قيادي في حزب أو نائب في البرلمان، كي تتجدد المعركة، ولن تهدأ سوى لتندلع مرة أخرى، في وقت لاحق. قضية الصراع عربي ـ أمازيغي هي أطول المعارك عمراً في الجزائر، إنها أكبر سناً من خصام اللغتين العربية والفرنسية، كما أن جنودها لا يتوقفون عن التزايد، ونهايتها ليست قريبة، فهي الطعم الذي يرميه الحاكم للشعب، في كل مرة، كي يكسب أيام راحة، ويستجم بعيداً عما قد يصله من حمم انتقادات عن التسيير الكارثي للبلد.
الانغلاق في هوية واحدة ليس سوى فخ، يحيلنا على الانطواء، على مخالطة أشخاص يشاركوننا الثقافة نفسها، ولا يضيفون شيئاً في تجاربنا، إنها تحد من فرضيات التطور الفكري والانفتاح، وتجعلنا نكرر ذواتنا لا أكثر، ومن حسن الحظ في الجزائر أنها تعيش تعدداً، تنوعاً، فلماذا يميل البعض إلى محوه، بدل الاستثمار فيه؟ إن التنوع الهوياتي عتبة أولى نحو تنوع ثقافي، لكن ما يحصل في الجزائر هو محاولة نحو تبسيط المكون المختلف/ الأمازيغي نحو تفسيرات سياسية، واعتباره نداً لا مكملاً. لقد تغير الزمن، تجاوزنا سنوات بن بلة وبومدين والشاذلي، ومحاولاتهم صهر الجزائر في عجينة واحدة، متأثرين وقتها بكوبا ذات التعداد الضئيل، وكل محاكاة لهم ليست سوى محاولة فاشلة، لأنها تخلق الصراع أو تجدده ولا تفضي إلى حلول عقلانية.
هناك من يتطرف في موقفه تجاه الهوية الأمازيغية، ويعتبرها مساساً بالأمن، ونزعة نحو الانفصال أو تمزيق نسيج المجتمع، متجاهلاً أن الأمازيغ كانوا في الصفوف الأولى سنوات حرب التحرير، مُدافعين عن جزائر واحدة ومتعددة، لا يزالون كذلك ولم يحيدوا عن الطريق، والمتغير الوحيد هو أنهم يجدون أنفسهم ـ اليوم ـ في محل الدفاع عن أنفسهم، لا شركاء في وطن جامع. ما تعرفه الجزائر من تعدد لغوي وعرقي يمكن أن نفسره بتراكمات تاريخية ورواسب جغرافيا، أوجدت البلد بين بحر متوسط وصحراء افريقية، هذا ما خلق شخصية جزائرية متعددة، تميل في علاقاتها مع محيطها إلى تلاحم لا تشنجا، وهذه المعركة الهوياتية الحاصلة لم تظهر سوى في ربع الساعة الأخير من تاريخ الجزائر، وهي في جوهرها ليست خلافاً بين عربي أو أمازيغي، كلاهما يحمل الجنسية نفسها، وينتسب للأرض ذاتها، بل هي معركة تتوالد من شعور عميق باللاعدالة واللامساواة بين مواطنين، هذا الشعور بالظلم والتوزيع المنحاز للثروات، الذي كرسته الأنظمة المتشابهة والمتعاقبة منذ 1962، هو ما يسرع الانفعالات لأن تطفو هذه الأمراض الإثنية على السطح، وبدل معالجتها، والتوجه نحو مساواة بين مواطنين، تزيد السلطة من تعتيم المشهد، وتغلف سوء فهم اجتماعي ببلاستيك هوياتي، وهي تنأى بنفسها بعيداً عن الجموع المتصارعة في ما بينها، في الشارع وفي السوشيال ميديا، وترمقهم في هدوء.
القدس العربي