يبدو جلياً أن إقليم كردستان العراق بعمومه يمر بلحظات «توتر» سياسي استثنائي، بعد استقرار نسبي زاد عن عشر سنوات. «مصير» ومستقبل رئاسة مسعود البارزاني للإقليم جوهر هذه المسألة. فهو أمضى ولايتين دستوريتين، ثم مُدد له بقرار توافقي من البرلمان المحلي لمدة عامين ينتهيان في أيلول (سبتمبر) المقبل، وبات يواجه معضلة التوافق مع القوى السياسية الكردية المحلية: فالأحزاب الكردستانية مجتمعة، خلا حزبه الديموقراطي الكردستاني، طالبت في جلسة برلمانية استثنائية في 23 حزيران (يونيو) الفائت بتقليص صلاحيات رئيس الإقليم، ما أثار حفيظة حزبه وأحدث التوتر السياسي الراهن.
لهذه المسألة، وعليها، تأثيرات وتداعيات مركبة ومتداخلة من المتوقع أن تُحدث مآلاتها تحولات في الإقليم الكردي. فهي ستعيد ترتيب شكل النفوذ الإقليمي شبه المتوازن، والذي قام توافقياً على أن الصوت الكردي في المؤسسات العراقية المركزية، بالذات في البرلمان والحكومة المركزية، سيكون «خاضعاً» للنفوذ الإيراني وخياراته في العراق، وان يكون لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني القرار الأعلى في ذلك عبر هيمنته على منصب رئاسة الجمهورية. في المقابل، يكون القرار الإقليمي الكردي متوازناً وأقرب للخيارات التركية في المنطقة، وذلك بترك مساحة واسعة في تحديد الأمور للحزب الديموقراطي الكردستاني والرئيس مسعود البارزاني.
سار ذلك في شكل هادئ قرابة عقد، لكن طريقة توافق الأحزاب الأقرب الى النفوذ الإيراني (الاتحاد الوطني وحركة التغيير والحزبين الإسلاميين) يُستدل منها أن ذلك التوازن سيشهد مماحكات غير قليلة. فإيران تسعى الى مزيد من الضغط السياسي على الرئيس بارزاني عبر هذه الممارسة، وكانت تحركات القنصل الإيراني في أربيل واضحة في ذلك المنحى. ولا يُمكن فصل الضغط الإيراني الراهن عن مجريات الصراع الداخلي العنيف في العراق، كمعركة الموصل والحرية التي تتمتع بها تحركات القوى السياسية للعرب السُنة في الإقليم، وكذلك شكل انخراط بارزاني في المسألة السورية.
كذلك سيتعكر صفاء التوافق السياسي الكردي الداخلي. فهذا التوافق/التحاصص أحدث استقراراً سياسياً نوعياً، واستطاع السنة الماضية حتى استيعاب حركة كوران السياسية التي تأسست كحالة رفض للتحاصص بين الحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني. وهذه المحاولة لخلخلة التوازن الداخلي رد عليها البارزاني في رسالته السياسية الجماهيرية التي وجهها في 1 تموز (يوليو)، مذكراً بأن مسألة الرئاسة يجب أن تُحل بشكل توافقي بين القوى السياسية، وليس عبر مبدأ الغالبية البرلمانية النسبية، لأنها جزء من العملية السياسية الكردية الكلية، المتوازنة بالتوافق، غامزاً من أن الإخلال بهذا المبدأ ستكون له تداعيات على جميع المؤسسات والسلطات السيادية.
أخيراً فهذا الأمر قد يخلط الأوراق ضمن العائلة البارزانية نفسها، حيث تُعتبر زعامة مسعود إحدى ركائز الاستقرار لمختلف النافذين ضمنها، وكذلك هيمنتها على الحزب الديموقراطي الكردستاني وعموم منطقة النفوذ التي تواليها، وهي جزء واسع من الإقليم. فـ «خروج» البارزاني من المشهد السياسي، او حتى تراجع دوره، سيؤثر بعمق على قدرته على خلق تلك التوازنات الداخلية التقليدية ضمن هذه العائلة «شبه الملكية». وخلافته في زعامة الحزب ورئاسة الإقليم، وإن بقيت «محجوزة» للعائلة، ستخلق تنافساً حميماً بين مختلف الأبناء وأولاد الأخوة.
السؤال الأصعب والأهم المتعلق بهذه التوازنات الصعبة، يتصل بنتائج هذا «المأزق» لجهة التأثيرات على الهوية السياسية الكلية لتجربة الإقليم. فخروج البارزاني بهدوء تام، بعدما أتم ولايتيه الدستوريتين، سيكرسه زعيماً سياسياً ديموقراطياً حقيقياً، وستتأصل المناقب الديموقراطية في كل التجربة الكردستانية الحديثة. أما غير ذلك، فسيحول الإقليم إلى نمط تقليدي لأنظمة الحُكم في المنطقة، وقد يطفئ الأنوار القليلة والضعيفة للحياة الديموقراطية والمدنية في الإقليم.
الدور الشخصي للبارزاني في هذا المأزق بالغ الحساسية. فهو، إلى جانب الرئيس جلال الطالباني، أحد الأبوين التأسيسيين للشكل الوحيد والحديث للكيانية الكردية، التي لا يقتصر أمرها على مكافحة الهيمنة والاحتلال الخارجي فحسب، بل يتضمن الانفكاك عما يخلّ بالعدالة والحداثة والديموقراطية. وهذا ما لا ينبغي ربطه، بعد كل تلك العذابات الكردية، بزعيم بعينه.
رستم محمود
صحيفة الحياة اللندنية