لم يكن الموقف الذي أعلنه الرئيس الإيراني حسن روحاني في احتفالية “التنمية الريفية” قبل أيام حول استعداده للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أي شخص أو جهة من أجل تأمين المصالح القومية للشعب الإيراني، آتيا من فراغ أو من محاولة منه لفرض شروط على القيادة الإيرانية لإجبارها على القبول بمبدأ التفاوض الذي سبق أن رفضته بشكل قاطع. بل هو موقف يصدر عن مسار طويل من مفاوضات هاتفية مكثفة خاضها مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تعدّت المرات الست، وكان يحرص أن يضع المرشد الأعلى في مجريات تفاصيلها ومدى التقدم الذي يحرزه في التوصل مع نظيره الفرنسي إلى نقاط وسط تكون قادرة على تأمين المصالح الإيرانية وتلبي المخاوف والشروط الغربية خصوصا الأوروبية، وتكون قادرة على إقناع الطرف الأميركي، وتحديدا الرئيس دونالد ترمب، بقبول العودة إلى طاولة المفاوضات.
وعلى الرغم من الأصوات الداخلية المتمسكة بمبدأ رفض التفاوض وعدم الثقة بالدور الأوروبي، خصوصا الدور الفرنسي، والتي كانت تصدر عن الجناح المتشدد داخل التيار المحافظ والذي يعتبر نفسه من المتضررين من أي تفاهم أو اتفاق يمكن أن تتوصل إليه الحكومة لحل الأزمات التي يواجهها النظام على صعيد الاقتصاد أو على صعيد علاقاته مع المجتمع الدولي، فإن عمق التأثير الذي تركته العقوبات الأميركية الخانقة قد أجبرت قيادة النظام والحكومة على الاقتناع بضرورة الانتقال إلى مرحلة التفاوض وتقديم التنازلات من أجل الحفاظ على الحدّ الأدنى من الإنجازات التي استطاعت أن تحققها في مرحلة التصعيد مع واشنطن.
هذه المواقف شكّلت الأرضية التي مهدت الطريق أمام الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف إلى العاصمة الفرنسية باريس، والتي سبق أن أعلنت عنها الخارجية الإيرانية، ولقاء الرئيس الفرنسي، وهي الزيارة التي أسست وسهلت لماكرون فتح الطريق أمام ظريف للانتقال إلى مدينة بياريتس التي تستضيف أعمال قمة السبع الكبار (G7)، وأن ينقل اللقاء بينه وبين نظيره الفرنسي، جان إيف لودريان، إلى هذه المدينة، وتحويل اللقاء الثنائي بين ظريف- لودريان إلى رباعي بمشاركة الخارجية الألمانية والبريطانية والاتحاد الأوروبي.
وإن كانت هذه الخطوة مفاجئة وصادمة للمتابعين من خارج دائرة الدول السبع الكبار، إلا أنها لم تكن بعيدة عن رضا ومباركة الرئيس الأميركي الذي منح نظيره الفرنسي لعب دور “العرّاب” في التقريب بينه وبين الإيرانيين من أجل التوصل إلى تفاهم حول الملفات العالقة مع طهران على أسس جديدة تلبي الشروط الأميركية.
زيارة ظريف إلى مقر قمة السبع الكبار في مدينة بياريتس شكل نقلة نوعية في الجهود التي يبذلها الرئيس الفرنسي للوساطة بين طهران وواشنطن، وقد سبقها عودة ظريف إلى طهران لمدة 24 ساعة نقل فيها نتيجة مباحثاته مع ماكرون وحصل فيها على موافقة قيادة النظام للتقدم في الإطار الذي تمخّضت عنه الجهود الفرنسية، وهي زيارة تزامنت مع موقف روحاني حول استعداده للجلوس والتفاوض مع أي جهة أو شخص، في إشارة إلى إمكانية اللقاء مع نظيره الأميركي، وهو اللقاء الذي توافق ماكرون وترمب على إمكانية حصوله خلال أسابيع، وقد يكون على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبل في نيويورك.
التطورات الإقليمية التي تشهدها المنطقة، خصوصا ما تقوم به تل أبيب من تصعيد في استهداف مواقع لحلفاء إيران في العراق وسوريا ولبنان، والتي شكلت في بعدها اللبناني نقلة خطيرة تهدد استقرار واستمرار القرار الدولي رقم 1701، الذي يرعى وقف الأعمال الحربية بين إسرائيل وحزب الله منذ حرب 2006، تشكل مؤشرا على أن السلة أو الصفقة الفرنسية في تسهيل المفاوضات المباشرة بين الأميركي والإيراني لا تقتصر على الملف النووي، بل تشمل أيضا وبشكل واضح ملف النفوذ الإيراني الإقليمي ودورها في الملفات الممتدة من العراق وسوريا ولبنان وصولا إلى فلسطين، وأن التفاهمات الأوليّة التي تم التوصل إليها يبدو أنها شكّلت مصدر انزعاج لدى قيادة تل أبيب التي تعتقد أنها ستكون على حساب دورها وموقعها في الشرق الأوسط وقد تفرض عليها بعض التنازلات.
الانزعاج الإسرائيلي يقابله انزعاج داخلي إيراني لدى الجناح المتشدد في النظام، الذي يرفض الدخول في مفاوضات خاضعة للشروط الأميركية، انطلاقا من أن الملفات المطروحة لم يحدث فيها أي تعديل، فواشنطن تريد التفاوض على بعض بنود الاتفاق النووي المتعلقة بالمدد الزمنية التي تمنع إيران من استئناف نشاطاتها النووية والتي تنتهي عام 2025، وتطالب بأن تكون هذه المدة مفتوحة لضمان عدم قدرة إيران على إنتاج سلاح نووي، وقد يتم التعديل عليها لإطالة مدة حظر هذه النشاطات لتصل إلى العام 2040 أو 2045، مع فرض المزيد من الرقابة الدولية والأميركية على هذه النشاطات.
في المقابل، وعلى الرغم من محاولة إيحاء الجانب الإيراني بأنه استطاع سحب ملف البرنامج الصاروخي عن طاولة المفاوضات، والتسويق لذلك على أنه إنجاز استراتيجي استطاع انتزاعه من الجانب الأميركي والأوروبي، فإن إشارة ترمب في مؤتمره الصحافي مع ماكرون إلى هذا البرنامج أعاد خلط الأوراق على الجبهة الداخلية الإيرانية، وبالتالي أعاد الحديث عن إمكانية أن تكون طهران قد أُجبرت على تقديم تنازلات في هذا الإطار، قد تشمل تقديم التزامات بعدم تطوير هذا البرنامج والحدّ من تطوير قدراتها الصاروخية والاكتفاء بالمستوى الذي وصلت إليه.
وعلى الرغم من شحنة التفاؤل التي بدأت بعض الأوساط الإيرانية تعيشها نتيجة هذه التطورات، فإن المقابل الذي قد تحصل عليه طهران من الممكن أن يسهم في تفجير هذا المسار، إلا إذا كانت القيادة الإيرانية قد وصلت إلى قناعة، لا عودة عنها، بأن الأمور وصلت إلى مستوى متقدم من التأزم، بات يهدد استقرار النظام، وهذا ما يمكن أن نستشفه من موقف روحاني الذي قال “نحن على استعداد للصمود، لكن على أي أساس، هل نصمد على حساب الناس، إذا أردنا أن نصمد فيجب أن يكون من أجل هدف نحققه، من أجل الناس وليس على حسابهم”.
من هنا يبدو أن طهران قد وافقت على العودة إلى طاولة المفاوضات الموسعة بمشاركة أميركية مقابل الحصول على “وعود” أميركية بضمانات فرنسية بالعودة إلى نظام الإعفاءات لتصدير النفط الإيراني الذي اعتمده البيت الأبيض لبعض الدول، التي قد يتراجع عددها إلى أربع بدلا من ثمانٍ (الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان)، وأن تتمكن من الحصول على عائداتها المالية في إطار الآلية المالية “انستكس”، التي أقرتها “الترويكا” الأوروبية للتعامل مع إيران.
إلا أن حجم هذه الصادرات ما زال محل اختلاف بين واشنطن وطهران التي تطالب بأن يكون حجمها 1.5 مليون برميل في اليوم، في حين تشير واشنطن إلى إمكانية موافقتها على 700 ألف برميل، بينما سبق لظريف أن طالب بأن تكون هذه الحصة نحو 2.5 مليون برميل.
كلام الرئيس الفرنسي عن قمة بين الرئيس الأميركي ونظيره الإيراني لم يكن ليصدر عنه ويلقى ترحيبا من ترمب لولا نتائج مباحثاته الهاتفية مع روحاني، وبالتالي فإن روحاني ما كان ليبلغ ماكرون هذا الموقف المتقدم لو لم يحصل على الضوء الأخضر من المرشد الأعلى للنظام، وبالتالي فإن هذا اللقاء إذا ما حصل سيفتح مسارا جديدا في منطقة غرب آسيا، إلا أنه سيطرح الكثير من الأسئلة عن الخطوط الحمراء التي وضعها روحاني حول حدود التفاوض مع واشنطن، وكذلك سيعيد إلى الذاكرة الموقف المتشدد الذي أعلنه مرشد النظام الذي أكد فيه على معادلة “لا حرب ولا تفاوض”.
اندبندت العربي