لم يكد يمر أسبوعان على إعلان طهران عن تصنيعها منظومة صواريخ “باور 373” وتبجحها بتفوق منظومتها العتيدة على المنظومة الروسية، “أس-300” الذائعة الصيت، حتى انتشرت أنباء طلب مستشار الأمن الوطني العراقي، رئيس هيئة “الحشد الشعبي”، فالح الفياض، خلال زيارته موسكو بيع العراق منظومة صواريخ “أس 300” المطوّرة أو “أس 400” الأكثر تطوراً. ونقلت الصحف أن طهران شجعت العراق على هذا الخيار (الشرق الأوسط، 8/9/2019). ويأتي الخبر هذا بعد نحو يومين على أنباء أمر أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، بإنشاء مديرية قوة جوية. وإذا صح النبأ هذا، ثبت أن مؤسسات العراق العسكرية لا تزال بعيدة من الارتقاء إلى مصاف قوات دولة- أمة جامعة تحتكر استخدام القوة وتتوسل بها في حماية وحدة الأراضي، ولا تتبدد ما إن تشن قوات داعشية الطراز هجوماً تاركة العتاد ومؤسسات الدولة من مصارف ومراكز أمنية في أيدي المهاجمين على ما حصل في يونيو (حزيران) 2014، ولا تنتهج سياسات انتقامية تحول، على سبيل المثل، دون نزع جثث القتلى، سواء كانوا داعشيين أم مدنيين، من أنقاض الموصل.
ولكن من المستبعد أن تسلم موسكو ميليشيات عراقية، ولو انضوت في الجيش العراقي، المنظومة هذه. فهي سبق لها أن امتنعت عن تسليم طهران وحرسها الثوري صواريخ “أس-400”. وعلى الرغم من أن موسكو التزمت تسليم دمشق العام الماضي هذه المنظومة إثر إسقاط طائرة روسية، إيل-20″، فوق سوريا، إلا أنها تأخرت في تسليمها المنظومة هذه وفي نشرها على امتداد الأراضي السورية كلها. ومع كل غارة إسرائيلية على مواقع إيرانية أو “حزب اللهية” في سوريا ومطاراتها، يبرز التساؤل عن أسباب عدم تصدي منظومة الدفاع الجوية المتطورة للضربات الإسرائيلية، وتكيل وسائل الإعلام الإيرانية ومسؤولون إيرانيون الذم والقدح لروسيا بسبب توقف نظامها الصاروخي “أس 300” عن العمل تزامناً مع “هجمات صهيونية”.
وعلى الرغم من أن موسكو سلمت دمشق هذه المنظومة ولكن من يتولى تشغيلها هم خبراء روس. وعابت الصحافة الروسية على السوريين في يوليو الماضي، سوء استخدامهم منظومة الصواريخ “أس-300” في إدلب. فهم نصبوها على تلال مرتفعة، ولم يسعها رصد الصواريخ “البدائية” التي أطلقها “المتمردون” من جهة. والمنظومة هذه، من جهة أخرى، لم تتولَ صد الغارات الإسرائيلية.
“أس-300” غير مجدية في حرب غير متناظرة
وتشير الغارة الإسرائيلية الأخيرة على ضاحية بيروت الجنوبية، وهي توسلت بطائرتي درون في اختراقها الأجواء اللبنانية وعدوانها، إلى أن دولاً مثل إسرائيل صارت تلجأ الى هذا النوع من الطائرات في شن هجمات، بعد أن كانت واشنطن تحتكر هذا الاستخدام في اغتيال قياديي حركة “طالبان” الأفغانية وقياديي “القاعدة”. ولو سلمت موسكو بغداد منظومة “أس-300” فلا يرتجى منها فائدة في صد الهجمات الإسرائيلية المسيّرة وغير المسيرة لسببين: أولهما أن روسيا لن تسلم مفاتيح تشغيل المنظومة للعراقيين، وثانيهما أن هذه المنظومات غير مُعدة لوسائل الحرب الهجينة التي تُستخدم فيها أسلحة صغيرة مثل طائرات الدرون المفخخة أو صواريخ مرتجلة وبدائية الصنع. وإلى اليوم، لم يسع القوات الروسية نفسها وقف هجمات الطائرات المسيرة على قاعدتها في حميميم في سوريا.
العراق وإسرائيل… تطبيع مستبعد
وفي سياق موازٍ ومتصل في آن، كان ديبلوماسيون سابقون، فرنسيون وأميركيون من أمثال ميشال دوكلو ونيكولاس بيرنز، يثنون على مبادرة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الديبلوماسية الرامية إلى نزع فتيل التوتر بين طهران وواشنطن المستعر منذ انسحاب إدارة دونالد ترمب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار (مايو) 2018، سلطت بعض الصحافة الأميركية ومراكز الأبحاث الضوء على توسيع إسرائيل دائرة عملياتها ضد إيران إلى العراق وكأن الضربات الإسرائيلية في سوريا أمر مفروغ منه ولا يستحق التناول بعد أن فاق عدد الضربات الإسرائيلية المئة منذ 2011.
ففي يوليو نسبت وسائل إعلام أجنبية وإسرائيلية إلى إسرائيل الضربات على أهداف إيرانية على مقربة من بغداد. وحينها، أكد مسؤولون أميركيون أن إسرائيل تقف وراء هذه الهجمات، وهي الأولى من نوعها في العراق منذ 1981، حين دمرت تل أبيب مفاعل صدام حسين النووي. وتلاحظ غرايس ويرمنبول، الخبيرة في الشؤون الجيو-سياسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مقالة نشرها موقع ميدل إيست انستيتيوت، أن إسرائيل اليوم تسعى إلى ما هو خلاف التحالف السري الذي جمعها مع إيران في مواجهة التسلح العراقي في عهد صدام. وأدت المواجهة هذه الى بدء طهران برنامجها النووي في منشآت سرية تحت الأرض لتجنب ضربات استباقية. ولا شك في أن صمت بغداد إثر الضربات الإسرائيلية المزعومة هو مؤشر إلى قبول مضمر لعمليات تل أبيب ضد الميليشيات الشيعية الشهر الماضي. ولكن التقارب الإسرائيلي- العراقي المفترض دونه تحديات اجتماعية- سياسية. وتعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين السلطة الفلسطينية والحكومة العراقية يُبرز دعم بغداد القضية الفلسطينية ومساعدة القيادة الفلسطينية على تقويض اعتمادها على القوى الغربية من طريق إبرام اتفاقات نفطية معها.
وفي الأشهر الأخيرة، صارت الاستراتيجية الإسرائيلية المعادية لإيران علنية أكثر. فمنذ الحرب الأهلية في سوريا، شنت إسرائيل ضربات على مواقع إيرانية هناك للحؤول دون نقلها أسلحة إلى وكلائها الإقليميين مثل “حزب الله” في لبنان و”لواء أبو فضل العباس” في سوريا. وفي مقابلة مع القناة التاسعة الإسرائيلية في ختام أغسطس (آب) المنصرم، لمح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى مسؤولية بلاده عن الهجمات على الميليشيات التي تدعمها طهران، معلناً “أن إيران غير محصنة أينما حلت… نعمل في مسارح كثيرة في مواجهة دولة عازمة على إبادتنا”.
وتشير تقارير إسرائيلية في شؤون الدفاع إلى أن تل أبيب تعتبر أن أنشطة إيران في العراق هي تهديد مباشر لأمنها. ويشير تقرير استخباراتي إسرائيلي صادر في 2019 إلى أن إيران تسعى إلى هيمنة إقليمية من طريق تحالفات في العراق وسوريا ولبنان. ويخلص التقرير إلى أن مصاعب إيران في ترسيخ قوتها في سوريا، حملت طهران على “إدراك أن الوضع المحلي والدولي في العراق حافل بفرص واعدة تخدم مصالحها الإقليمية”. ولذا، مدت وكلاءها في العراق بصواريخ باليستية طويلة المدى. ولا تحمل التقارير عن نقل صواريخ إيرانية إلى الميليشيات العراقية جديداً. فوكالة رويترز نقلت قبل عام أخباراً عن نقل طهران صواريخ إلى العراق وبدء العمل بمعامل صواريخ في الزعفرانية، شرق بغداد وجرف الصخر على مقربة من كربلاء في 2016. وعزت مجلة فورين بوليسي زيارة مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، العاجلة إلى بغداد في مايو المنصرم وإلغائه حينها زيارة إلى ألمانيا، إلى تقارير موثوقة أفادت بنقل صواريخ إيرانية باليستية إلى العراق. ودعا بومبيو بغداد إلى وقف “استيراد” الصواريخ الإيرانية ونزع أي صواريخ إيرانية من أراضيها. وفي مباحثات ثلاثية بين إسرائيل وأميركا وروسيا في يونيو الماضي، طالبت تل أبيب وواشنطن موسكو بالسعي إلى انسحاب القوات الإيرانية من العراق وليس من لبنان وسوريا فحسب. ويسعى اليوم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الى إقناع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بعقد اجتماع ثلاثي جديد لدولهم قبل الانتخابات الإسرائيلية في 17 الشهر الحالي.
ويُنقل عن دبلوماسيين أوروبيين أن لقاءات دورية تنظم بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم العراقيين، ومنها لقاءات عُقدت في إسرائيل. وفي يوليو الماضي، عدّد السفير العراقي في الولايات المتحدة، فريد ياسين، دواعي تعزيز العلاقات بين البلدين، ومنها جالية عراقية كبيرة في إسرائيل “تتمسك بسماتها وتقاليدها العراقية”. غير أن المؤشرات تكاد لا تذكر إلى مثل هذه الشراكة فيما خلا صفحة صداقة فيسبوكية تديرها وزارة الخارجية الإسرائيلية وزيارة عدد من الصحافيين العراقيين المغبونين إسرائيل.
وإثر هجمات نُسبت إلى تل أبيب في يوليو الماضي، دعا 80 نائباً عراقياً حكومة بلادهم إلى الرد على مصدر الهجمات. وعارض العراق أن تسهم إسرائيل في الائتلاف الدولي الذي تقوده أميركا لضمان الأمن البحري ونقل النفط في الخليج ومضيق هرمز. وما يحول كذلك دون مثل هذا التقارب العلني مع إسرائيل هو انبعاث علاقات بغداد بالسلطة الفلسطينية، وبحثها مد السلطة هذه بالوقود، ومقاطعة العاصمة العراقية مؤتمر المنامة ورفضها “صفقة القرن”.
مصير الاتفاق النووي مع إيران
خلاصة القول إن التقارب العراقي- الإسرائيلي مستبعد، وأن “الانفراج في العلاقات الأميركية- الإيرانية” هش. فعلى سبيل المثال، جمعت صحف أميركية خبر دعوة ماكرون محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، إلى بياريتس حيث عُقدت قمة الدول السبع مع خبر إشادة الرئيس الأميركي بنظيره الصيني بعد أيام قليلة على دعوته إلى انسحاب الشركات الأميركية من السوق الصينية. وكأن “الانفراج” هذا ظاهري وموقت ولن يطول الأمر قبل أن يمحوه النهار المقبل، على الرغم من أن قلق واشنطن وباريس، شأن الأوروبيين، مشترك من الملف النووي الإيراني.
فالأوروبيون والأميركيون يُجمعون على أن اتفاق يوليو 2015 محدود، على ما لاحظ المحلل الفرنسي مارك سيمو. ولكن في وقت يسعى الأوروبيون، والرئيس الفرنسي تحديداً، إلى “استكمال” الاتفاق النووي هذا ببنود تتناول الصواريخ الباليستية الإيرانية وتُلزم طهران بوقف مساعي الزعزعة الإقليمية في سوريا ولبنان واليمن، يتمسك ترمب بإطاحة الاتفاق والضغط الكبير على طهران لحملها على الصدوع باتفاق جديد.
ولا يخفى أن المقاربتين الفرنسية والأميركية متكاملتان إلى حد كبير. ويقترح الإليزيه على واشنطن أن تستأنف العمل بالإعفاءات من العقوبات التي كانت سارية إلى مايو المنصرم- وكانت كبرى زبائن النفط الإيراني، ومنهم الصين والهند واليابان، تستفيد منها- مقابل عودة طهران إلى التزام الاتفاق النووي الذي أخلت ببعض بنوده رداً على الانسحاب الأميركي وعجز الأوروبيين عن مساعدتها على الالتفاف على العقوبات.
اندبندت العربي