عاشت المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد ليلة عصيبة ودامية شهدت اشتباكات بأسلحة خفيفة ومتوسطة، سقط خلالها 30 قتيلاً وجُرح المئات في صفوف المدنيين والمسلحين وأفراد القوات الأمنية، وذلك في أعقاب إعلان السيد مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي وإغلاق الغالبية العظمى من مكاتب التيار الصدري الذي يقوده. الاضطرابات توسعت إلى مناطق أخرى في العراق، وامتدت إلى كربلاء والناصرية وميسان وديالى، كما أغلق متظاهرون مدخل ميناء أم قصر في محافظة البصرة، وكل هذا رغم أن الحكومة أصدرت قراراً بحظر التجوال.وإزاء الوضع المتفجر أمهل السيد مقتدى الصدر أنصاره 60 دقيقة للانسحاب من اعتصامهم أمام مجلس النواب العراقي، متوجهاً بالنقد إلى ما سماه «ثورة التيار الصدري» على غرار ما فعل حين انتقد «ثورة تشرين» حسب تعبيره. الصدر اعتذر أيضاً من الشعب العراقي لأنه «المتضرر الكبير مما يجري» وسعى إلى تطويق المزيد من الاحتقان في الصف الشيعي حين أكد أن «أفراد الحشد الشعبي لا علاقة لهم بما يحدث».
ومن جانبه، وهو التصريح الأول من نوعه لوّح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بإعلان خلوّ منصبه “في الوقت المناسب”، في حال استمر التناحر والخلاف السياسي في البلاد، في حين اعتبر الرئيس العراقي برهم صالح أن إجراء انتخابات مبكرة “يمثل مخرجا للأزمة”.لكن الملفت في هذه الازمة التي تفجرت واتخذت طابع العنف السياسي، حالة “الصمت” التى تبنتها إدارة الرئيس جوبايدن حيال أزمة الصراع السياسى المتصاعدة فى العراق بين تيار الصدر وبين قوى الإطار التنسيقى بشأن تشكيل الحكومة، قبل أن يعلن الصدر اعتزاله الحياة السياسية نهائياً فى 29 أغسطس 2022.حالة الصمت التى انتهجتها إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن حيال التصعيد السياسى فى العراق على هامش إشكاليات تشكيل الحكومة، بين التيار الصدرى وقوى الإطار التنسيقى بدت لافتة؛ بالنظر إلى كون العراق دولة كانت محتلة من قبل الولايات المتحدة عام 2003، وتحت هذا الاحتلال صيغ الدستور العراقى عام 2005، الذى أسس نظاماً للحكم منح المكون الشيعى أفضلية واضحة على حساب باقى المكونات السياسية الأخرى، وأنتج قاعدة لتداول السلطة تقوم على “المحاصصة الطائفية” التى تعد سبباً رئيسياً فى كل ما واجهه العراق من أزمات سياسية وعدم استقرار أمنى، وخلقت تلك المحاصصة مجالاً للاحتقان الطائفى بين المكونات السياسة الشيعية والسنية والكردية، ما أدى إلى وجود الميليشيات المسلحة التى تعمل خارج منظومة المؤسسة الأمنية الرسمية للدولة، وحينما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق فى عام 2011، وضعت آلية محددة للتعاون معه تقوم على آلية الحوار الاستراتيجى، وعند عودتها لمواجهة إرهاب تنظيم داعش فى عام2014، أعادت صياغة علاقة التعاون مع بغداد فى إطار محاربة الإرهاب، ومع انسحابها الجزئى خلال الفترة (2020- 2021) جراء تصاعد حدة الرفض السياسى للوجود الأمريكى، أعادت واشنطن تصنيف العلاقات بينها وبين بغداد تحت مسمى “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”.
هذا بخلاف ما يمثله العراق بالنسبة للولايات المتحدة باعتباره “شريكاً” إقليمياً فى الحرب الدولية ضد الإرهاب، ولديه فائض احتياطي من النفط، ونقطة الارتكاز فى سياسة الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الإيرانى فى المنطقة.هذا النمط من التفاعل على مدار تلك السنوات يفرض على الجانب الأمريكى إبداء قدر يعتد به من الاهتمام حيال ما تشهده العراق من أزمة سياسية طاحنة تكاد تنذر بحالة من الاحتراب المسلح، لاسيما وأن واشنطن لديها خبرات سابقة فى التعامل مع أزمات التشكيل الحكومى فى العراق، وأن هذا الدور غالباً ما كان يأتى فى سياق “التوافق الإقليمى والدولى” بشأن شخصية من يتولى رئاسة الحكومة العراقية، وهو موقف لطالما نزع فتيل العديد من الأزمات بخصوص تشكيل الحكومات العراقية سابقاً. ان المعضلة الاساسية في العراق هي الهندسة السياسية للنظام السياسي العراقي، التي وضعت ركائزه الولايات المتحدة الامريكية، واصبح رهينة للتاثيرات السياسية الدولية والاقليمية، ورغم اهمية العراق للولايات المتحدة كموقع جيوسياسي ومصدر للطاقة، الا ان العراق عالق في ازمات مركبة تهدد مصيره، تتعلق بنظام الحكم واداء النظام السياسي، وغياب الحوكمة والمسائلة، وارساء البنى الديموقراطية، وانتشار المظاهر المسلحة، وغياب وحدة الهدف والقيادة والسيطرة، واستفحال ظواهر الفساد والجريمة المنظمة والارهاب، كل هذه المشاكل والعراق يخضع لقانون الطوارئ الامريكي اذن مالذي فعلته الولايات المتحدة للعراق في ضوء هذا القانون؟ والسؤال الموضوعي ما اهمية وقيمة هذا القانون الذي لم ينتشل العراق من ازماته والظواهر النازفة التي تعصف به؟
وان استراتيجية الولايات المتحدة تجاه العراق مبهمة فيما يتعلق بسيادة العراق واستقراره، وسلامة شعبه، وحماية امواله من الفساد والسرقة والاهدار، وغياب التنمية المستدامة، وارساء دولة المؤسسات، وهي صاحبة التاثير الفعلي على المشهد السياسي والامني العراقي، وتستطيع ان تخضع العراق لحالة الطوارئ الوطنية؟ ورغم ذلك لم تفعل !! فما الذى تغير إذن فى الموقف الأمريكى تجاه حالة الصراع السياسية التى يشهدها العراق فى المرحلة الحالية؟ أولها، تراجع الاهتمام السياسى الأمريكى بالملف العراقى إلى حد ما؛ بمعنى أنه لم يعد يحظى بأولوية واضحة فى أجندة الإدارة الأمريكية فى هذه المرحلة. هذا التصور ربما يكون صحيحاً بالنظر إلى استحواذ الحرب الروسية-الأوكرانية على جل الاهتمام الأمريكى، يضاف إلى ذلك التصعيد الذى تمارسه الولايات المتحدة تجاه الصين فيما يتعلق بتايوان، وهو ما يعكس تركيز إدارة بايدن على مواجهة السياسات الروسية والصينية فى منطقة “الاندوباسيفيك”. ثانيها، إخفاق الإدارة الأمريكية الحالية فى “التقدير الاستراتيجى” لتفاعلات مكونات المشهد السياسى فى العراق بعد نتائج الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر 2021، بمعنى أن إدارة بايدن تولى اهتماماً معيناً بفكرة الديمقراطية عبر دعم مؤسسات الدول التى تصنف بأنها صاحبة تجربة ديمقراطية “وليدة”، ولا يمتد هذا الاهتمام –فى حالات معينة – لدعم القوى السياسية. وعليه لم تهتم تلك الإدارة بتوفير الدعم الدبلوماسى الممكن للقوى السياسية التى فازت بنتيجة الانتخابات فى مسارها لتشكيل الحكومة الجديدة، وهى تيار الصدر والقوى المتحالفة معه فى “تيار إنقاذ وطن”، فى المقابل واصلت إيران دعمها القوى واللامحدود للقوى السياسية من الأحزاب الدينية التقليدية الموالية لها بالرغم من فشلها فى الحصول على “الشرعية الانتخابية” إن جاز التعبير، بل عملت على تحويل مسار إخفاق حلفائها انتخابياً إلى مسار ينجح تدريجياً فى دفع خصومه من قوى تيار إنقاذ وطن إلى الفشل مراراً وتكراراً فى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر عبر آلية – الثلث المعطل- بل ودفع قاطرة هذا التيار وزعيمه إلى الاستقالة من البرلمان، والخروج من أطر المعارضة السياسية إلى معارضة الشارع مستغلاً حضوره اللافت لدى قاعدة عريضة من الجماهير العراقية الشيعية والسنية والكردية وغيرها، وصولاً إلى إعلانه الاعتزال الكامل والنهائى للحياة السياسية.ثالثها، أن موقف أكثر حضوراً للولايات المتحدة – عبر الأداة الدبلوماسية – فى الصراع السياسى الحالى فى العراق كان كفيلاً بتوفير قوة “موازنة ” للدور الإقليمى الذى تلعبه إيران بجدارة فائقة داخل العراق، وهذا يعنى وجود إخفاق فى تقدير إدارة بايدن لمدى النجاح الذى كان يمكن أن تحققه القوى الفائزة فى الانتخابات العراقية تجاه إضعاف قبضة إيران على مقاليد الحياة السياسية فى العراق، وذلك حال نجاح تلك القوى فى تشكيل حكومة وطنية غير طائفية. بمعنى أكثر دقة مثّل “غياب” الولايات المتحدة عن مفاعيل وتطورات الأزمة السياسية فى العراق على مدار التسعة أشهر الماضية “فرصاً ضائعة” كانت كفيلة بتغيير قواعد اللعبة السياسية فى العراق ضد إيران، التى تنجح دائماً فى ملء الفراغ الذى تتركه الولايات المتحدة فى بؤر الصراع التى ينخرطان فيها. ويلاحظ هنا أن الصمت الأمريكى تجاه العراق بهذه الكيفية يدفع البعض إلى ترجيح فكرة أن واشنطن لا ترغب فى إشعال جبهات صراع جديدة بينها وبين طهران داخل العراق حتى يتم التوقيع على الاتفاق النووى الإيرانى الجديد، ما يعيد إلى الأذهان سياسة الرئيس الديمقراطى الأسبق باراك اوباما الذى اعتقد أن إبرام الاتفاق النووى مع إيران – مايو 2015 – سيمنعها أو على أقل تقدير سيبطئ من مسار نفوذ مشروعها الإقليمى فى المنطقة، وهو ما حدث عكسه تماماً.رابعها، اكتفاء الولايات المتحدة بلعب دور “المراقب” للأحداث فى العراق، وإجراء “تقييم” لحالة الصراع السياسى، وما سيفضى إليه من نتائج وفقاً لحسابات الربح والخسارة التى يمكن أن تواجه المصالح الأمريكية فى الداخل العراقى، على خلفية أن الصراع بين المكونات السياسية الشيعية بإمكانه أن يوفر فرصاً مواتية لكسر حدة الهيمنة الإيرانية فيه، بما يوفر للعراق هامش حركة يبتعد به نسبياً عن سياسات المشروع الإقليمى الإيرانى. وتعد حظوظ هذا التصور ضئيلة وربما منعدمة لاسيما بعد أن أعلن السيد الصدر اعتزاله الحياة السياسية كاملة تاركاً المجال السياسى لقوى الإطار التنسيقى لتعيد بوصلة السياسة العراقية تجاه إيران مجدداً. فالعراق ليس إلا مجرد ورقة تفاوضية تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية ضد خصمها الإيراني.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية