الناصرية (العراق) – انتزعت محافظة ذي قار بجنوب العراق مكانا بارزا لها تحت الأضواء، متخطّية واقع التهميش الذي ظل لسنوات يعتبر أبرز ميزاتها، وذلك عندما تصدّر شباب المحافظة حركة الاحتجاج العارمة الجارية في عدة مناطق عراقية، ما جعل الناصرية تقدّم أكبر عدد من القتلى برصاص القوات الحكومية والميليشيات الشيعية خلال الأيام الأربعة الأولى من موجة الاحتجاج.
وسقط في المحافظة الريفية الواقعة في قلب منطقة العشائر بالجنوب العراقي على بعد حوالي 300 كيلومتر عن العاصمة بغداد قرابة نصف القتلى من المحتجين، الذين تخطى عددهم الأربعين قتيلا إلى حدود مساء الجمعة.
ويقول أبناء مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار إن لمدينتهم تاريخا مع الثورات والانتفاضات. ويقول المعلق السياسي أمير دوشي، وهو أحد أبناء المدينة التي تعد حوالي نصف مليون ساكن، “حتى وإن فقدنا شهداء، فسوف نستمر في الحراك طالما لم تُلبَّ مطالبنا”.
ويضيف متحدثا لوكالة فرانس برس “أنا أشارك في الاحتجاجات منذ عشر سنوات، وسنواصل الاحتجاج حتى سقوط النظام، وحتى يلفظ أنفاسه الأخيرة”.
ولطالما شكلت الناصرية معقلا تاريخيا للاحتجاج في العراق، على قدر ما كانت موطنا لنشوء الأحزاب التي “خلقت وعيا قويا بين الناس تجلى في العديد من الانتفاضات”، بحسب الأكاديمي حامد الشاطري، وهو من سكان الناصرية.
ويقول الباحث العراقي رشيد الخيّون، الذي ولد وعاش في ذي قار، لـ“العرب “إن تاريخ الناصرية يعد تاريخا للحزبية العراقية، فنشاط الحزب الشيوعي الأول انطلق منها، حيث كان مؤسسه يوسف سلمان يوسف فهد، يعيش ويعمل هناك، وكان حينها ممثلا للحزب الوطني الذي يرأسه الوجيه البغدادي جعفر أبوالتمن (ت 1945)، والوجيه التكريتي مولود مخلص (ت1951)، ومن الناصرية ينحدر مؤسس فرع حزب البعث العربي الاشتراكي فؤاد الركابي، وتجد الناصرية لها الحصة الكبرى في نشاط الأحزاب الدينية، ومنها حزب الدعوة الإسلامية الذي تأسس بالنجف سنة 1959.
ويقول الشاطري إن سكان ذي قار لطالما “انتفضوا في وجه الظلم”. واليوم، وفي حين تعم الاحتجاجات بالعراق للمطالبة بتوفير الخدمات العامة اللائقة وحل مشكلة انقطاع الكهرباء وتوفير المياه الصالحة للشرب بعد عقود من المعاناة، لم يهدأ نشطاء ذي قار في تنظيم الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات.
ففي المحافظة التي يعيش أكثر من 40 من سكانها تحت خط الفقر، يدفع العوز إلى الاحتجاج، تضاف إليه تقلبات الطقس بين الجفاف والفيضانات المدمرة للمحاصيل، في حين يشكل العمل في الزراعة مصدر دخل لمعظم سكان المحافظة.
ويقول راضي المعروف، المسؤول في الحزب الشيوعي في الناصرية، “الفقر والبطالة يتصاعدان”، وفي المقابل “ليس لدى الحكومة سوى الوعود ولا توجد حلول تقترحها”. ولهذا السبب، يؤكد المعروف “يعرّض الشباب صدورهم للرصاص”.
ويضيف، حياة هؤلاء الشباب “مجرد موت بطيء.. الرصاص أرحم”.
ويذكّر رشيد الخيّون في حديثه لـ“العرب” ببعض الرصيد الحافل من الانتفاضات لمحافظة ذي قار ومركزها الناصرية بالقول “هناك انطلقت سنة 1935 ما سميت بانتفاضة ريسان حيث سوق الشيوخ، وظل هذا النفس في أسرته حتى اشترك ولده كاظم آل ريسان في انتفاضة آذار سنة 1991، وقبلها أقدمت القوات البريطانية على قصف دار بني أسد سنة 1924، وأخذت الزعيم الشيخ سالم الخيون أسيرا، واستمر أخوه غضبان الخيّون متنقلا ثائرا في أهوارها حتى وفاته سنة 1959. ثم اختار القسم المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي سنة 1967 الناصرية وأهوارها مكانا للكفاح المسلح. وفي المقدمة كان أمين الخيّون (اغتيل 1972).
ويذكّر الخيّون بأن الانتفاضات والثورات لم تكن الميزة الوحيدة للناصرية، فقد اشتهرت أيضا بحسب الباحث العراقي بالفن والأدب، “فمنها انحدر حضيري أبوعزيزي وداخل حسن والملحن المشهور طالب القرغولي وحسين نعمة وغيرهم الكثير”.
ويستدرك الخيّون بالقول “لكن النفس السياسي والحزبي ظل ميزة عامة للناصرية في مراحل الدولة العراقية وحتى انتفاضة أكتوبر الأخيرة”.
ويضيف “دماء أبناء الناصرية حاضرة في ساحة التحرير ببغداد. لقد تراكمات النكبات عليها، وغطى أحياءها الخراب والتخلف، فلم يبق من شارع أو عكد الهوى إلا الاسم وكان منزل العشاق والمتحضرين، غير أن الناصريين لم يتركوا الاحتجاج ولم تلبسهم الأحزاب الدينية عمائم الإسلام السياسي ولا بطانيات دعاية الانتخابات، فكانت المدينة متصدرة للاحتجاجات منذ 2003 وحتى يومنا هذا”.
وحرص الخيّون في حديثه عن الناصرية على تبيان خلفيات إطلاق لقب “الشجرة الخبيثة” عليها، مؤكدا أنه “لم يكن مفارقا لمحاولة النيْل منها سياسيا قبل أن يكون اجتماعيا”، مضيفا “قيل إن للإنكليز دورا في هذه التسمية أثناء المعارك عند احتلال البصرة والتوجه إلى الناصرية”.
العرب