ربّما من نكد الدنيا أن تكون مضطرًّا للمفاضلة بين السيّئين. ومن بؤس الأيام ألا تجد بُدًّا من التذكير بأن ثمة بشاعة أخرى تتجاوز تلك التي يُشار إليها بالأنامل، وتتجه لها فوهات البنادق.
وقبل البدء، لا بدّ أن نُذكّر المتحنثين في محراب “مواجهة الطائفية”، خاصة أولئك الذين لا تلتهب حماستهم أمام مشاهد القتل والتصفيات المذهبية والمجازر الجماعية، بقدر ما تلتهب أمام استخدام أي كاتب أو باحث لمفردات “سُنّة” و”شيعة”، وإنْ في سياق توصيف سياسي وشرح لطبيعة الصراع على الأرض. نُذكّر هؤلاء أن ثمة حربًا طائفية كبرى تشتعل في المنطقة، الله وحده يعلم متى ستنتهي وكم ستجرف من أراضي العرب المُجرّفة أصلًا بفعل أنظمة الاستبداد والتهميش والتهييج الديني والمذهبي.
لذا؛ فإنّ تسمية الأشياء بمسمياتها، وتعريف أطراف الصراع بهوياتهم التي يرفعونها ويقاتلون تحت لوائها، هو أول الطريق لفهم ما يجري، وفيه توصيفٌ لحقيقةٍ مؤسفةٍ لا مناص من مواجهتها بوضوح بدل الاختباء وراء الإصبع بدعوى التحرر من التصنيف المذهبي.
ففي عالمٍ يضجّ بكل ما هو طائفي، تغدو محاولات تجاوز التوصيف والتقسيم وفق الطائفة -رغم كونها عنصر التمايز الهُويّاتي الأبرز في الصراع القائم- ضربًا من الورع البارد، ورومانسية ثقافية هي أقرب لعالم الشِّعر منها لعالم السياسة، وتعففًا مذمومًا عن الإشارة لمجرمٍ بهُويته ودوافعه، كي لا يتهمك أحدٌ بأنك “طائفيٌّ”.
قبل أيامٍ فقط، انتهى المؤتمر الدولي الذي دشن تحالفًا ضم أكثر من أربعين دولة يهدف إلى محاربة الدولة الإسلامية “داعش”، التنظيم الذي بات يحتلّ مساحة واسعة من الأراضي السورية والعراقية، وغدا المهدد الأكبر لدول الإقليم.
ومع أن الحديث عن هذا الحلف يستحق تفصيلًا أكثر، إلا أنه يمكن اعتبار ما جرى “تحالف ضرورة” لإيقاف خطرٍ داهمٍ لا تستطيع دول المنطقة -بإمكاناتها المحدودة- الوقوف في مواجهته.
لكنّ ذلك يطرح سؤالًا مهمًّا: في حال تمّ تحجيم تمدد تنظيم الدولة الإسلامية؛ فمَن الذي سيتمدد في المقابل على هذه الجغرافيا؟ هل الحكومة الطائفية في العراق ومليشيات الموت التابعة لها؟ لأننا، حينئذٍ، لا نقوم سوى بتقليص جغرافيا “داعش” من جهة، وتهيئة كل الظروف الموضوعية لإعادة إنتاج “دواعش” أخرى من جهة ثانية.
لا شك أن تنظيم الدولة الإسلامية يمثل التجلي الأبرز للإجرام والتوحش والغلو الدينيّ في الوسط السُّني، وأن هذا التنظيم فتَّ في عضد الثورة السورية، وحقن كل أمصال السم في شرايين حراكٍ ثوريٍّ كان ينشد إسقاط نظامٍ ديكتاتوريّ مجرم، ودقّ كل مسامير الموت في نعش الثورة لا النظام.
لذا؛ غدت مواجهة هذا التنظيم فكريًّا وعسكريًّا حاجة مُلحّة، من أجل وقف زحف الخراب والقتل والتدمير والتكفير لأراضٍ جديدة.
لكن ما يجدر قوله هنا، إن “الحالة الداعشية” -باعتبارها وصفًا لأقصى حالات الإجرام والتوحش والقتل الطائفي- لا تتمثل فقط في تنظيم الدولة الإسلامية، بل تتجلى أيضًا في تنظيمات أخرى عديدة، بعضها أكثر إجرامًا ومكرًا من تنظيم الدولة. وربما لا تتوقف المفارقة عند كون هذه التنظيمات لم تدخل في قوائم “الأعداء” في التحالف الدولي القائم ضد الإرهاب، بل بكون بعضها بات جزءًا من هذا التحالف!
وإذا ما أردنا أن نضع محددات لـ “الحالة الداعشية”، بكونها “تنظيمات مسلحة خارج دائرة الدولة، ترفع شعارًا طائفيًّا، وتمارس القتل على الهُوية، ولها تاريخ إجرامي في قتل المدنيين”، ثم درسنا ما حصل في العراق منذ الاحتلال الأمريكي في 2003م، وفي سوريا منذ بدء عسكرة الثورة في أواخر 2011م، فإننا بالطبع سنخرج بقائمة ممتدة من التنظيمات التي ينطبق عليها هذا الوصف، بدءًا بفيلق بدر، مرورًا بجيش المهدي، وعصائب أهل الحق، ولواء أبي الفضل العباس، وكتائب حزب الله في العراق، وليس انتهاءً بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وإذا كان ثمة اتفاقٌ على إجرام جميع هذا التنظيمات وطائفيتها وممارستها للقتل والتهجير على الهُوية، فإن عقد مقارنةٍ بين ممارسات هذه التنظيمات -بوجهيها السُّني والشيعي- والموقف الدولي منها، سيُظهر لنا مستويات لافتة من الفروق تستحق التوقف والنقاش.
فإذا كانت جميع هذا التنظيمات الداعشية تشترك في كونها مليشيات مسلحة خارج دائرة الدولة، وترفع شعارًا طائفيًّا، وترتكب المجازر والتهجير بناء على الهوية الطائفية، فهي تختلف بالتالي:
-“داعش” السنية قامت وتأسست بهدف محاربة الاحتلال الأمريكي للعراق، وقضت سنواتها الأولى – من 2003م وحتى 2006م – وعدوها الأول هو الاحتلال الأمريكي (ثم انحرفت بعد ذلك لمقاتلة الشيعة، ثم انحرفت بعد ذلك مجدداً لمقاتلة العشائر والأحزاب السنية التي تُسميهم “صحوات”).. في المقابل لم يقاتل معظم الدواعش الشيعة الاحتلال الأمريكي (جيش المهدي قاتل القوات الأمريكية في فترات متقطعة، مع مشاركة واجهته السياسية “التيار الصدري” في الحياة السياسية منذ بدايتها)، وكانت الواجهات السياسية لمعظم هذه التنظيمات منخرطة في المشروع الأمريكي بعد الاحتلال، وبعضهم كانوا أعضاءً في “مجلس الحكم الانتقالي” تحت قيادة بول بريمر.
– ليس “لداعش” السُّنية أي ظهير إقليمي أو دولي، بل هي على عداء مع جميع الدول السنية فضلًا عن سواها، فيما معظم التنظيمات الداعشية الشيعية على علاقة وثيقة وعضوية بإيران، وبعضها نشأ وتشكّل داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويتلقّى منها المعونات المادية والعسكرية.
– حين نتحدث عن “داعش” السنية، فإننا نتحدث عن تنظيم خارج القانون، عناصره مُطاردة، وهويات قياداته معروفة بالكنى، وتحاول أجهزة الاستخبارات في عدة دول إقليمية وعالمية التعرف على هوياتهم الحقيقية ودولهم التي ينتمون إليها، فيما التنظيمات الداعشية الشيعية هي مجرد أذرعة لأحزاب سياسية علنية، التي لها أعضاؤها في البرلمان، وتدير بعضًا من أهم الوزارات في الحكومة العراقية، ويبتسم قادتها أمام الكاميرات، ويغطي الإعلام الحكومي نشاطاتهم اليومية؛ بل إن المفارقة وصلت للحدّ الذي يترشح فيه القائد العسكري لأكثر الميليشيات الشيعية دموية وطائفية “فيلق بدر” لتولي حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة العراقية الحالية!
– “داعش” السنية موضوعة على لوائح الإرهاب عند كلٍّ من أمريكا والدول الأوروبية وجميع الدول السنية الإقليمية، وهناك جهود حثيثة لضربها واستئصالها، فيما لا يوجد تنظيم داعشي شيعي واحد موضوعٌ على أيٍّ من لوائح الإرهاب الأمريكية والأوروبية ولا حتى في الدول السنية.
– إذا ما عقدنا مقارنة بين الدواعش من الطائفتين، سنجد أن الغالبية الساحقة من ضحايا “داعش” السنية هم من السنة، كما يفعل تنظيم الدولة في سوريا، وكما فعل في العراق بمحاربته للصحوات منذ 2006م وحتى اليوم، مع قيامه أيضًا بتفجيرات متكررة في المناطق الشيعية، فيما التنظيمات الداعشية الشيعية جميع ضحاياها تقريبًا من خارج طائفتها “من السّنة.”
– تبدو داعش السنية أقلّ براغماتية وأكثر عقائدية في تعاملها مع الموضوعات التي تُثير حساسية الدول الغربية، ولا تتردد في ارتكاب أي أفعال من هذا القبيل “كتهجير المسيحيين، وتهديد الغرب، ومواجهة احتلالهم للدول العربية”، فيما تبدو التنظيمات الداعشية الشيعية أكثر براغماتية –وربما ذكاءً– فيما يخص تعاملها مع أي ملفاتٍ تمثل حساسية عند المجتمع الدولي.
– أيضًا، في طبيعة السلوك الإجرامي هناك فرق لافت، وهو أن “داعش” السنية تحاول النيل من الحاضنة المدنية الشيعية دون تمييز؛ لذا تقوم بإرسال الانتحاريين والسيارات المفخّخة لتفجيرها في المناطق الشعبية الشيعية، فيما تقوم “داعش” الشيعية بعمليات نوعية لها بُعد استراتيجي، مثل القتل على الهوية في مناطق محددة والتخويف المستمر بغرض التهجير الطائفي (كما في بغداد وديالى والبصرة)، وكما في الاغتيالات النوعية لرموز سياسيين وعلماء وأساتذة جامعات ينتمون للمذهب السني.
– كما إن المتابع للمشهد الفكري والسياسي العربي سيجد بوضوح أن أكثر النقد الفكري البنيوي والسياسي الحاد الذي يوجه لداعش السنية يصدر من نخب سنية كثير منها إسلامي التوجه، فيما لا تكاد تجد عند النخب الشيعية أي نقد يستحق الذكر لأفكار وممارسات التنظيمات الداعشية الشيعية، بل ربما تجد الترحيب بمشاركة الواجهات السياسية لهذه التنظيمات في الحياة السياسية.
ما سبق مجرد مقارنات سريعة بين نوعين من الدواعش، كلاهما يعزز الانقسام الطائفي، ويدفع باتجاه اشتعال الحروب الأهلية، ويمثل خطرًا حقيقيًا على مفاهيم المواطنة والحقوق، وعلى تطور ورسوخ القيم الديمقراطية.
لا معنى لأن يواجه العالم “داعش” ويدع “دواعش” أخرى، فهذه التنظيمات لا تعتاش وتتمدد سوى بوجود وجوه أخرى للتطرف والطائفية والقتل على الهوية، ولن تنشأ دولة المواطنة والديمقراطية وهناك من يجلس على مقاعد السلطة وفي معطفه لوحة تحكم بمليشيا تمارس كل الأعمال القذرة التي لا يستطيع أن يمارسها بأجهزة الدولة. إن العدالة في “منح الحقوق” ليست أكثر أهمية من العدالة في محاربة المجرمين بمعزل عن طوائفهم وانتماءاتهم.
نواف القديمي
http://altagreer.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%84%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b4%d8%b7/%d9%86%d9%88%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%8a-%d8%b9%d9%86-%d8%af%d9%88%d8%a7%d8%b9%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%a9-%d9%88%d8%af%d9%88%d8%a7%d8%b9%d8%b4-%d8%a7%d9%84