منذ الاجتياح الأميركي للعراق سنة 2003 عملت إيران بشتى الطرق لتدعيم نفوذها فيه، واعتمدت في ذلك الكثير من الأدوات والوسائل منها الأحزاب الدينية والميليشيات العسكرية والمؤسسات المالية والاقتصادية والإعلامية وأيضا الجمعيات ذات الواجهة الخيرية، والتي يعطى لها عادة اسم أحد الأئمة أو المبجلين للتمويه، ويديرها رجل ديني ليسهل عليها الاستقطاب والتجنيد وتجعل بالتالي الجمهور قيد طاعة تلك المؤسسات، فيما هي في حقيقتها مرتبطة بأجندة نظام طهران التوسعية تقوم بمهمات استخباراتية لفائدته، وهدفها الأصلي فرض هيمنته على العراق لابتلاعه أرضا وشعبا وثقافة.
كانت الجمعيات الخيرية وسيلة الإسلاميين، على العموم، سُنَّة وشيعة، للوصول إلى النّاس، وإحدى أبرز أدوات عملهم السياسي. وتعرف هذه الجمعيات عند الشيعة بالمبرات، التي يشرف عليها عادة أحد رجال الدين، أو لجنة من الحزب الديني.
من المعلوم أن العنوان الديني هو الأسرع إلى البسطاء، فلا تجدهم يفكّرون بما وراء هذا الخديعة، إنما بحل المعضلة الأسرية والشخصية في الطعام واللباس والتعليم، وهي التي تتستر وراء فعل الخير عن طريق الجماعات الدينية السياسية، ما يضطر الكثير مِن المعوزين إلى اتخاذ عقيدة الحزب أو الجماعة لباسا.
غير أن ما يحدث بالعراق، لا يتوقف عند سد الحاجة الشخصية أو الأسرية، مقابل الانتماء وتقديم العرفان، لحزب أو دولة، مثل الجمهورية الإسلامية، والتي يحلو للإسلاميين على العموم، أن يدعوا إيران بالجمهورية الإسلامية، والسبب أنه عنوان يضم مساحة واسعة، أبعد مِن إيران، يضم لبنان، والعواصم الأربع التي تحدث الولي الفقيه الإيراني عن الهيمنة عليها (بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء).
والاعتراف جاء من قِبل حزب الله اللبناني، في خطاب أمينه العام حسن نصرالله، بأن مستقبل لبنان مرتبط بنظام ولاية الفقيه، وعلى التحديد السيد الخامنئي الحُسيني، حسب تسمية نصرالله له، في الفترة الأخيرة. أما في حياة الخميني فقال نصرالله، قبل أن يتولى زعامة الحزب، إن الدولة المنشودة عنده ليست دولة لبنان الإسلامية إنما دولة الولي الفقيه التي يمثلها ويقودها السيد الخميني. وكان الشعار في حسينيات السيدة زينب “اللهم احفظ لنا الخميني حتى ظهور الإمام المهدي”! ولكم تصور تغييب العقل في هذا الشعار وغيره.
هناك مؤسسات بأسماء مختلفة، غير أنها لا تخرج عن إدارة رجال الدين، والأفراد النشطاء في العمل سياسيا واستخباراتيا مع إيران
لم تكن الميليشيات الأداة الوحيدة التي تهيمن بها إيران ولاية الفقيه على العراق، إنما هناك جانب اقتصادي واجتماعي تقوم به مؤسسات كثيرة، اختيرت لها عناوين من أسماء الأئمة، موجهة إلى شيعة العراق في الوسط والجنوب.
لا يهمّ نظام ولاية الفقيه أن تستخدم أسماء الأئمة لمؤسسة تجارية أو مخابراتية، إنما هي أسماء تجعل الجمهور قيد طاعة تلك المؤسسات، والمرتبطة بالتالي بنظام دولة أجنبية هي الجمهورية الإسلامية، هذا من غير الجانب العسكري المتمثل بالميليشيات، والجانب الحزبي السياسي المتمثل في الأحزاب الدينية والشخصيات التي عاشت زمنا طويلا في إيران.
من هذه المؤسسات مؤسسة الإمام “السجاد الخيرية” في كربلاء. ويُذكر أنها واجهة خيرية، لكن مهمتها هي نقطة مخابرات في المدينة، التي تهم نظام إيران أكثر من غيرها، وذلك لأنها محط قدم إيرانيين كثيرين. يترأس المؤسسة إيراني ويساعده عراقيون من تنظيمات إيرانية.
والإمام السجاد هو علي بن الحسين، الذي نجا من مذبحة كربلاء سنة 61 هجرية، ويعد أبا للأئمة الإثني عشر، حسب التقليد الشيعي. لكن الإيرانيين لا يتأخّرون في وضع اسمه على جمعية خيرية كاذبة، عملها الأساسي هو عمل سياسي مخابراتي، تديره وزارة إطلاعات الإيرانية، ولا بد أن هذه النقطة قد جندت الشباب العراقي للانخراط في التجسس لصالحها.
أُطلق في بغداد-الكرادة اسم الإمام المهدي المنتظر على مؤسسة تتبع فيلق القدس، وقائده المتنفذ في العراق قاسم سليماني. تضطلع هذه المؤسسة بمهام تسليحية. وتدار من قبل منظمة بدر التي يقودها هادي العامري، أحد أبرز رجال إيران في بغداد. كذلك توجد مؤسسة الإمام جعفر الصادق، ومقرها في بغداد-شارع فلسطين، وواجهتها ثقافية، يشرف عليها مقداد إسلامي وعلي خسروي، بينما عملها سياسي، لا شأن له بالثقافة.
واستغل اسم السيدة فاطمة الزهراء، في مؤسسة “أنصار فاطمة الزهراء”، ومقرها كربلاء ولها فرع في النجف وبقية محافظات الوسط والجنوب. ليست أسماء الأئمة فقط قد استغلت مِن قِبل الجانب الإيراني، إنما استغل “القرآن” أيضا، حيث فتحت مؤسسة “دار القرآن”، والتي مقرها بغداد ولها فروع في بقية محافظات الوسط والجنوب. وكلها جمعيات ذات واجهات خيرية، لكن مهمتها اقتصادية واستخباراتية، كشبكة لتوسيع للنفوذ الإيراني داخل العراق.
هناك مؤسسات بأسماء مختلفة، غير أنها لا تخرج عن إدارة رجال الدين، والأفراد النشطاء في العمل سياسيا واستخباراتيا مع إيران، ومنها: مؤسسة “الحِجَة” ومقرها الكاظمية في بغداد. ولقب الحجة هو لقب الإمام المهدي المنتظر، ومهمتها تأمين المساكن للعناصر المخابراتية الإيرانية، وتوزيعهم ببغداد. ومنها مؤسسة “روح الله”، أي آية الله الخميني وهو اسمه الأول، اتخذت من محافظة ميسان مقرا لها، ولها فروع في محافظتي واسط وذي قار، كذلك أنها مؤسسة سياسية تعمل تحت غطاء ثقافي شيعي. ومؤسسة “الخطيب الثقافية الإسلامية”، ومقرها محافظة ديالى، مدينة بعقوبة-الحي العسكري، يشرف عليها عضو برلمان عراقي يتعامل مع فيلق القدس مباشرة.
أما مؤسسة “بارسيان الخضراء”، فوظيفتها جمع المعلومات عن العراقيين الرافضين للوجود الإيراني، وتعمل تحت غطاء صحي أو طبي، وجمع المعلومات عن الرافضين للوجود الإيراني تهيئة لاغتيالهم إذا استحال استقطابهم، وقد اغتيلت عناصر عديدة من المثقفين والسياسيين، ولا يُستبعد أن تكون هذه الجمعية من اشتغلت على رصدهم.
يظهر في الجانب المالي “بنك سبه”، ومقره بغداد وله فرع بالنجف والبصرة مهمته الرئيسية غسيل الأموال للأعمال الإرهابية بالعراق والمنطقة، وتحت الحماية الإيرانية. كذلك مؤسسة ميلي المصرفية أو بنك “ميلي” مقره بغداد-شارع عرصات الهندية، والذي يقدم التسهيلات المالية للنشاطات الإيرانية. مع علمنا أن المؤسسات التي تعمل في الجانب المالي تكون أهم من غيرها، فهي التي تراقب حركة السوق وما يحتاج من بضائع إيرانية، وحركة الدولار وصرفه، والعمل على نقله إلى إيران لمواجهة الحصار المفروض هناك.
عدا هذه المؤسسات الإيرانية تأسست منذ 2003 حوزات دينية، داخل المدن والقرى العراقية، أسسها معممون كانوا قد تلقوا تعليما دينيا في مدينة قّم، ولما دخلوا إلى العراق كُلفوا بمهمة تشكيل الحوزات الدينية، والغالب منهم أبناء الأسر التي هُجرت في الثمانينات، وعملها لم يكن للتدريس الديني فقط، وإنما لتوسيع مرجعية المراجع الدينية الإيرانية، وبث فكر ولاية الفقيه. نشأ من هذه الحوزات جيل من الشباب، يتحمس للمناسبات الدينية، ويقوم بتنظيم المواكب الماشية إلى كربلاء في زيارة الأربعين، إضافة إلى هذا وجود المدارس الإيرانية.
غير أن أكثر المدن العراقيّة تضررا من الوجود الإيراني الخيري والتجاري هما مدينتا كربلاء والنجف؛ فقد هيمن الإيرانيون على السياحة الدينية تماما، من امتلاك وإدارة الفنادق إلى المجالات الحيوية، فالزائر الإيراني عندما يأتي إلى كربلاء والنجف يجد أمامه مستثمرين إيرانيين، يأتون بالنقد ويحملونه إلى إيران من باب آخر.
لب الموضوع، إنه من الخطأ اعتبار النفوذ الإيراني ميليشياوي مسلح فقط، أو يتم عبر الأحزاب الدينية، التي تبسط نفوذها على مقاليد دوائر الدولة، إنما هناك الجانب “الخيري” والاستخباراتي، والذي واجهاته بعض مما ذكرنا، ومن الصعوبة الإلمام بكافة المؤسسات التي تقوم بهذا الدور. فإيران تحتل العراق اجتماعيا ومذهبيا، لأنها تعتمد في سياستها الجانب العاطفي في التأثير على العراقيين، وهي تعلم أن الأحزاب التي عملت معها ليس لها الاستمرار طويلا، وقد تنقطع الذاكرة، أي الدور الذي لعبته المعارضة العراقية الإسلامية في إيران ضد العراق، لذلك أخذت تهيئ جيلا جديدا في توسيع وضمان استمرار النفوذ السياسي والاقتصادي.
لكنها فوجئت بتظاهرات أكتوبر، بعد أن اتضحت الصورة بأنها مرفوضة من شباب الشيعة قبل السُنَّة، لهذا لا بد لها من التفكير بترتيب أولوياتها داخل العراق، ففقدان العراق يعني نهاية النظام في إيران، بل ونظرية ولاية الفقيه السياسية، لأنها تُدر بالمال العراقي والإنسان العراقي، ممَن سيؤخذون للقتال في سبيلها في سوريا واليمن، وسيؤخذون للقتال عنها في عقر دارها طهران إذا ما تعرضت لخطر جدي.
العرب