تعاني المرأة العراقية من سلطة العشائر وتحكم التقاليد القبلية في جل تحركاتها وتكبل حريتها، ووجدت في الاحتجاجات التي سادت العراق مؤخرا متنفسا للتعبير عن وجودها والتخلص من عباءة المجتمع المفرط في المحافظة الذي تعيش فيه.
ولم ينكسر حاجز الخوف لدى الشبان فحسب في ساحة التحرير، معقل المحتجين بالعاصمة العراقية بغداد، وإنما تقود النساء أيضا انتفاضتهن الخاصة داخل الحراك وضمنه، لكسر الطوق الذي فرضته الأحزاب الدينية وصرن يتحركن بحرية في هذه الاحتجاجات سواء مع أفراد أسرهن أو مع أزواجهن، أو حتى بمفردهن في تحد للمخاطر التي تحيط بهن.
ويبدو جليا لكل من يزور ميدان التحرير أن النساء أيضاً بدأن يحصلن على موطئ قدم لهن في الاحتجاجات، على أمل أن يحققن أهدافهن الخاصة إلى جانب المطالب العامة.
وبينما يهتف الجميع ضد النخبة السياسية الحاكمة ويطالبون برحيلها لبناء نظام جديد بعيد عن المحاصصة وسطوة الأحزاب التقليدية، تتطلع النساء إلى أبعد من ذلك، عبر سعيهن للانتفاض على القيود القبلية التي تعيق حريتهن إلى حد كبير في بلد لا تزال فيه القبيلة تلعب دوراً كبيراً في المجتمع.
وبدأت مشاركة النساء تتزايد تدريجيا، في ساحات الاحتجاج وأمام المدارس وداخل الجامعات وفي الشوارع، ويقفن في خطوط المواجهة مع قوات الأمن، أو يقدمن المساعدات الطبية أو الخدمية في الخطوط الخلفية، في مشاهد غير مألوفة إلى حد كبير في العراق.
وبان (25 عاما)، واحدة من هؤلاء الفتيات اللواتي يصنعن انتفاضتهن الخاصة، للمطالبة بحقوقهن المكبلة وطموحهن إلى الحرية والتخلص من القيود الاجتماعية والقبلية، وكانت بان من بين مَن جلسن في استراحة محارب عقب انتهائها مع أخريات من فرش السجاد الأحمر في أروقة مبنى مهجور يطل على ساحة التحرير، ويعرف باسم “المطعم التركي”، فيما أطلق عليه المحتجون أيضا اسم “جبل أحد”.
تتطلع النساء إلى الانتفاض على القيود القبلية التي تعيق حريتهن إلى حد كبير في بلد لا تزال فيه القبيلة تلعب دوراً كبيراً في المجتمع
وقالت بان وهي تلهث في حديث للأناضول “لأول مرة أحس بالانتماء إلى هذا البلد، وبأهمية وجودي وبأن الثورة محتاجة إلى وجودنا جميعا”.
وصمتت لثوان معدودة قبل أن تضيف “ثورتنا هذه المرة لم تكن ضد نظام الحكم فحسب.. بل هي ضد الأنظمة العشائرية القبلية الدينية التي تسوّق أفكارا لتحجيم دور المرأة في المجتمع”.
ويشهد العراق، منذ مطلع أكتوبر الماضي، احتجاجات شعبية في العاصمة بغداد ومحافظات أخرى، تطالب برحيل حكومة عادل عبدالمهدي التي تتولى السلطة منذ أكثر من عام. ومنذ ذلك الوقت، سقط في أرجاء العراق 323 قتيلًا، وفق لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، وأكثر من 15 ألف جريح، بحسب مفوضية حقوق الإنسان (رسمية تتبع البرلمان).
وأغلب الضحايا من المحتجين ممن سقطوا خلال مواجهات بين المتظاهرين من جهة وقوات الأمن ومسلحي فصائل شيعية مقربة من إيران من جهة ثانية.
ولا يبدو أن الموت يشغل بال النساء المشاركات في الاحتجاجات، بل إن ما يثير مخاوفهن أمر مختلف تماما، حيث تحدثت متظاهرة تضع كمامة على أنفها، مفضلة عدم كشف هويتها، عن هاجس الخوف من الاختطاف قائلة “ليس لدي أو لدى زميلاتي أي خوف من الموت..، لكن ما نخشاه هو الاختطاف أو الاعتقال لأن الموضوع يتحمل تبعات عائلية واجتماعية”.
وتستشهد بحديثها عما تعرضت له زميلتها صبا المهداوي التي اختطفت بعد عودتها من ساحة التحرير. وتضيف “لو كان هناك في البلاد من يحترم الدستور والقانون لما تم اختطافها واعتقالها وإخفاؤها بهذه الطريقة، بالرغم من كونها لم تقدم سوى المساعدة لإخوانها المتظاهرين”. وختمت حديثها بسؤال وجهته لسلطات البلد قائلة “أين صبا؟”.
ورغم مخاوفهن من الاختطاف، إلا أن هذا الهاجس لم يقف حاجزاً أمام إقبال متزايد للنساء في الاحتجاجات بدءاً من خط المواجهة الأول وصولاً إلى الخطوط الخلفية.
وقالت المسعفة الطبية اشتياق (36 عاماً) باندفاع شديد “دورنا بدأنا نأخذه وبدأ يكبر، ونحن الآن نقف وسط إخواننا المتظاهرين في كل ميادين الاحتجاج، فنحن نتواجد على خط المواجهة الأول سواء كمفارز طبية أو لتقديم المساعدة بالرغم من وجود الرصاص الحي والقنابل المصوّبة على رؤوسنا والقريبة منا”.
وتابعت “تتواجد نساء أخريات في الخطوط الأخرى لتقديم الدعم اللوجستي والطعام وحملات التنظيف والأعمال التطوعية الأخرى، وكذلك هناك شابات ساهمن في رسم جداريات، وأخريات ساهمن مع إخوانهن في إصدار جريدة ورقية يومية في ساحة التحرير باسم ‘تك تك’”.
نساء يكسرن حاجز الخوف
نساء يكسرن حاجز الخوف
وطالب المحتجون في البداية بتحسين الخدمات وتأمين فرص العمل ومحاربة الفساد، قبل أن تشمل مطالبهم رحيل الحكومة. ويرفض رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي الاستقالة، ويشترط أن تتوافق القوى السياسية أولًا على بديل عنه، محذرًا من أن عدم وجود بديل “سلس وسريع” سيترك مصير العراق للمجهول.
“هذه تجربة عظيمة”.. هكذا وصفت رغد (30 عاما) مشاركتها في الاحتجاجات، وتقول “شاركت هذه المرة لأن التظاهرة خالصة للعراق ليس فيها رموز سياسية أو دينية أو أي أجندة”.
ولم تتوقع رغد أن تجد حملة أطلقتها على مواقع التواصل الاجتماعي لتنظيف ساحة التحرير والمطعم التركي كل تلك الاستجابة السريعة التي حظيت بها.
وبهذا الصدد تقول “أطلقت الحملة على مواقع التواصل لتنظيف ساحة التحرير والمطعم التركي، وشارك فيها أغلب الشبان والشابات دون تردد”.
وتكمل بملامح مطمئنة “الشباب في ساحة التحرير يفكرون بشكل واع ويدركون أن التغيير يبدأ حين نتشارك معا رجالا ونساء للحصول على حقوقنا ونطالب بالتغيير سوية”.
وقالت إحدى الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي “إنه في مجتمع لا يختلط فيه الجنسان بشكل طبيعي، يعني الاحتجاج جنبًا إلى جنب مع الرجال أنه قد تم كسر أحد المحرمات، ويعتقد البعض أنها ثورة ضد التقاليد والقواعد القديمة”.
وأضافت “لا مجال يدعو إلى الشك بأن هذه الانتفاضة تمثل نقطة تحول في حياة المرأة العراقية، إلا أن طريق العراقيات إلى حريتهن وحقوقهن ما زال محفوفا بالحواجز والصعوبات”.
ورفعت الشاعرة والمترجمة مريم العطار، التي كان حضورها بارزا في المظاهرات في محافظة ميسان بجنوب العراق، لافتة كتبت عليها “أريد حقي”، وقالت “عندما انتشرت صورتي وأنا أرفع اللافتة وردتني رسائل كثيرة من فتيات يردن المشاركة في التظاهرات، لكنَّهن متخوفات”.
وأضافت “كانت أسئلتهن: هل يمكن أن نشارك من دون إظهار وجوهنا؟ وهل يمكن ذلك من دون أن نُحسب على تيار سياسي معين؟ وهل نستطيع التعبير عن آرائنا بلا تدخل أحد؟ وكنت بكل وضوح أقول لكلِّ واحدةٍ منهن: نعم يمكن ذلك، يمكن أن تطالبي بحقك، وتطالبي بالخدمات من دون خوف”.
وأكد مغردون عبر تويتر أن النساء يشكلن عنصرا مهما في الحراك، رغم كل ما يتعرضن له من مضايقات اجتماعية وسياسية لمشاركتهن في المظاهرات.
وأفادت تقارير صحافية أجنبية بأن ما يميز الاحتجاج في العراق هو مشاركة النساء، لافتة إلى أنه رغم عدم ظهورهن بكثرة في الأماكن العامة، إلا أن مشاركتهن إلى جانب الرجال في المظاهرات هي علامة فارقة في الحراك العراقي الحالي.
العرب