أجبرت التطورات الأخيرة في العراق وإيران، اللذين يعيشان احتجاجات عارمة تطالب بالتغيير السياسي في كلا البلدين، نائب الرئيس الأميركي مايك بنس على تفقد قوات بلاده في العراق، واللافت للانتباه، أن بنس أجرى هذه الزيارة التفقدية دون أن يلتقي أيا من المسؤولين الرسميين في بغداد، في الوقت الذي تستعر فيه الاحتجاجات ضد الطبقة السياسية، التي طالت أيضا إيران صاحبة النفوذ في العراق، في المقابل، التقى بنس رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان برزاني في أربيل، بعد زيارته إلى قاعدة عين الأسد التي تضم قوات أميركية غربي العراق.
وأكد نائب الرئيس الأميركي على التزام الولايات المتحدة بسيادة العراق، معربا عن قلقه من النفوذ الإيراني، وذلك تزامنا مع الاحتجاجات التي خرجت في مدن عراقية، فقد أتت زيارة بنس بعد أيام على كشف صحيفة “نيويورك تايمز” وموقع “ذي إنترسبت” الإلكتروني الاثنين، عن المئات من التقارير الاستخباراتية الإيرانية المسرّبة التي تظهر عمق نفوذ طهران في العراق.
وخلقت الزيارة جدلا متجدّدا في البلد، خاصة بعد ما كرّر المسؤول الأميركي رفيع المستوى ما فعله الرئيس دونالد ترمب من عدم لقاء المسؤولين في حكومة بغداد، ورغم التواصل الهاتفي مع رئيس الحكومة عادل عبد المهدي.
وحملت زيارة نائب الرئيس الأمريكي أكثر من بعد استراتيجي:
الأول: على المستوى الداخلي: أشار بشكل شبه مباشر الى ضرورة التغيير، وذلك بالقول “نحن نشجع الطبقة السياسية على تلبية مطالب المتظاهرين السلميين المشروعة”، كما ركز على ضرورة احترام سيادة العراق، واتخذ سلوك مُبطن بتجاهله لزيارة بغداد، لأمرين: أولهما: إعطاء نوع من اللا مبالاة للحكومة الحالية، وهي رسالة ضمنية قد تكون موجهة للمتظاهرين والقوى السياسية في آن واحد، وثانيهما، لا تريد واشنطن ان تُتهم على انها تدعم المتظاهرين ومواقفهم الحراكية، أو انها تسعى لتغيير المعادلة السياسية في العراق بشكل صريح.
فوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية بومبيو، خاطب بغداد مباشرة قائلاً: إن الولايات المتحدة ترحب بأية جهود جادة تبذلها حكومة العراق لمعالجة المشاكل المستمرة في المجتمع، وأضاف، أنه ينبغي على الحكومة الاستماع إلى المطالب المشروعة للشعب العراقي الذي خرج إلى الشوارع لكي يعبر عن صوته.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تراقب الوضع عن كثب، مؤكداً أن الولايات المتحدة منذ البداية تدعو جميع الأطراف إلى نبذ العنف، كما دعا الحكومة العراقية إلى تخفيف القيود المشددة المفروضة على حرية الصحافة والتعبير، مشيراً إلى أن الحكومة الأمريكية ستواصل دعم المؤسسات العراقية والشعب وأمن العراق واستقراره وسيادته.
ويتفق المشرعون الأميركيون على أن عبد المهدي هو صديق للولايات المتحدة وأنه رجل جيد، وهناك اعتقاد في واشنطن بأنه يتمتع بثقة السنة والكرد، ولكنهم أكدوا أنه يجب أن يجعل حكومته أكثر قبولا من العراقيين الصغار في السن، وقال السيناتور ليندسي غراهام، إن عبد المهدي صديق نأمل أن يتمكن من تصويب الأوضاع، ولكن الفساد متفشٍ.
وقال السيناتور الديمقراطي تيم كين، إن عدم الاستقرار والاحتجاجات في العراق تثير القلق، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع التدخل، لأن المشاركة الأمريكية قد تكون سبباً للاضطرابات من قبل البعض، لذلك يجب فعل ذلك بطريقة تعتقد الحكومة العراقية أنها مفيدة.
وأعترف كين بأنه لا يعرف ما الذي تعتقد الحكومة العراقية أنه سيكون مفيداً في الوضع، ولذلك من الأفضل أن تقدم الإدارة خطة جيدة قابلة للسؤال والجواب حتى يتم التوصل لما هو أفضل.
وخدم النائب الديمقراطي روبن غاليغو من ولاية اريزونا في قوات مشاة البحرية في العراق، وهو يشعر أن الوضع لم يقترب بعد من الصراع المفتوح ولكنه دعا عبد المهدي إلى الاستقالة.
وقال غاليغو، إن العراقيين يريدون حكومة أقل فساداً وأكثر شفافية وأقل سوءا، مشيراً إلى أن انهيار الحكومة لا يعني بالضرورة قيام حرب أهلية، وأضاف أن العراقيين قد سئموا أيضاً، من تدخل إيران، ولديهم خوف من أن طهران قد تزيد سيطرتها وتأثيرها على الحكومة.
وقال النائب الجمهوري آدم كينزنجر من ولاية إلينوي، إنه يشارك المخاوف بشأن الاضطراب السياسي في المنطقة، وكذلك الدور الذي لعبته إيران في الصراع.
وبعيداً عن التعليقات الرسمية المألوفة في مثل هذه الحالات، وعودة إلى الاستنتاج الأول للموقف الأمريكي من احتجاجات العراق، أكد المحلل انتوني عيسى، أن الاحتجاجات الجماهيرية في العراق هي ضربة واضحة لإيران وطموحاتها لتوطيد قوس من النفوذ من طهران إلى بيروت، وعلى حد تعبير عيسى، يشترك لبنان والعراق في قصة مماثلة بخصوص الأنظمة السياسية، التي تشكلت في أعقاب الحروب الطائفية المدمرة.
البعد الاستراتيجي الثاني: على المستوى الإقليمي: ركز مايك بنس على سلوك إيران الإقليمي الذي وصفه بالخبيث، كما شدد على ان واشنطن لن تتخلى عن التزاماتها في القضاء على داعش، أو أي تنظيم مُتطرف في المنطقة، كما ان زيارته للعراق وقاعدة عين الأسد العسكرية الامريكية تحديدًا هي رسالة لطهران على أن واشنطن وقوتها العسكرية لن تتخلى عن مصالحها الإستراتيجية في العراق لصالح أية قوى إقليمية أخرى، لاسيما وان بغداد تربطها بواشنطن اتفاقية استراتيجية طويلة الامد.
فهذه الزيارة تعني أن الإدارة الأميركية تتصرف بطريقة حازمة مع إيران، بغض النظر عن وضع الرئيس دونالد ترمب، والصعوبات الداخلية التي تعترض إعادة انتخابه رئيسا في تشرين الثاني نوفمبر 2020، تعكس هذه الصعوبات الحقيقية جلسات الاستجواب في الكونغرس التي محورها الضغط الذي يُقال إنّ ترمب مارسه على أوكرانيا، من أجل ملاحقة نجل “جو بايدن” نائب الرئيس السابق الذي يحتمل أن يكون منافسه من الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
إن الإدارة الأميركية نواة صلبة تعرف ما هي إيران، ولا تحيد عن الخط المتشدد الذي رسمه أصلا دونالد ترمب، الذي مزّق الاتفاق في شأن ملفّها النووي الذي وقّع في تموز يوليو من العام 2015، في عهد الرئيس باراك أوباما، والذي يؤخذ عليه – أي أوباما – أنه كان مأخوذ بإيران، وكان يختزل كلّ أزمات الشرق الأوسط والخليج بملفّها النووي، غير آبه بأنّ المشكلة مع إيران لم تكن يوما في هذا الملفّ بمقدار ما أنّها في مكان آخر، المشكلة في السلوك الإيراني خارج إيران، بما في ذلك العراق، وفي الإصرار على امتلاك أسلحة تهدّد بها جيرانها مثل الصواريخ الباليستية.
تبيّن أن هذه النواة الصلبة في الإدارة الأميركية تعرف الكثير عن إيران، وتعرف خصوصا ما تفعله في العراق الذي تحوّل بسبب إدارتي بوش الابن وأوباما إلى شبه مستعمرة إيرانية، ويتبيّن حاليا أن إدارة ترمب تضمّ مسؤولين يعرفون تماما الشرق الأوسط والخليج، ويعرفون خصوصا إيران وما تفعله منذ أربعين عاما، هناك نائب الرئيس بنس، وهناك وزير الخارجية مايك بومبيو الذي يمتلك خطابا سياسيا واضحا لا لبس فيه عندما يتعلّق الأمر بإيران، لم يؤثر خروج جون بولتون من الإدارة على السياسة الخارجية، صحيح أن بولتون كان صقرا وكان من دعاة الرد عسكريا على إيران، إلّا أن الصحيح أيضا أنّ من المهمّ جدا يكمن في تفادي السقوط في الفخّ الإيراني، تبيّن بكل بساطة أن للعقوبات على إيران فعالية أكبر بكثير من أية مواجهة عسكرية معها كانت تسعى إليها بنفسها للظهور في مظهر مَن يتصدّى لأميركا في المنطقة.
في كلّ الأحوال، كشفت الأحداث الأخيرة مدى رفض الشعب العراقي لإيران، كما كشفت أيضا حجم الضغوط الإيرانية على العراق، ومدى ارتباط مستقبل النظام الإيراني بنفوذه في العراق، من هذا المنطلق، كان تحذير نائب الرئيس الأميركي لإيران عبر العراق في محلّه، في وقت ليس فيه ما يشير إلى أن الثورة الشعبية في إيران مجرّد حدث عابر، كذلك، ليس ثمة ما يشير إلى أنّ الشارع العراقي مستعد للاستكانة والرضوخ للأمر الواقع الذي تسعى إيران إلى فرضه.
البعد الاستراتيجي الثالث: على المستوى الدولي: توجيه رسالة الى الجماعة الدولية بأن “واشنطن معنية بشأن العراق أمام العالم، وأن أي فشل للقوى السياسية في العراق في التعامل مع الأزمة الحالية سيوجب تحرك الولايات المتحدة وبأساليبها وادواتها الخاصة.
لكن الولايات المتحدة تحاول الابتعاد عن التدخل المباشر في الأزمة العراقية، نتيجة التهديدات التي تطلقها قيادات في بعض فصائل الحشد الشعبي الحليفة لإيران، والتي يؤكدها سفير طهران في العراق “إيراج مسجدي” خلال لقاء مع إحدى الفضائيات العراقية في الـ26 سبتمبر أيلول الماضي، بعزم إيران الرد على أي هجوم أمريكي موجه ضد إيران في أي مكان يتواجد فيه الأمريكيون، بما في ذلك العراق، سواء من إيران مباشرة، أو من خلال القوات الحليفة لها، حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وجماعة الحوثي في اليمن.
وتعتقد الولايات المتحدة أن هناك أطرافا حليفة لإيران تحاول خلط الأوراق عبر اتهامها ودول حليفة لها، مثل إسرائيل والسعودية، بدعم الحركة الاحتجاجية الموجهة في جزء كبير منها ضد إيران، في سياق ما يُعتقد أنه “مؤامرة أجنبية” تستهدف السلطة الشيعية والنفوذ الإيراني في العراق.
وفي كل الأحوال، فإن الخيارات الأمريكية لإحداث تغيير في العراق تبدو محدودة جدا، لكن ذلك يعتمد بالأساس على قدرة المحتجين على مواصلة احتجاجاتهم لفترة زمنية لاحقة، تزداد خلالها حالة الرفض الشعبي للنفوذ الإيراني وللقوى السياسية والفصائل المسلحة الحليفة لها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية