ذاتَ يومٍ فوجئ وزير الدولة العراقي للشؤون الخارجية حامد الجبوري بسؤال من الرئيس صدام حسين: «هل قرأت عن ولاية الفقيه؟». ردَّ الوزير بالنفي. فقال صدام: «إنه كتابٌ صغيرٌ يجب أنْ تقرأه». ثم انطلق في الحديث عن «مساوئ الخميني وطمعه في السلطة». ولم يكن أمام الجبوري غير أن يقرأ. وحين أبلغ صدام قال الأخير: «أردتك أن تعرف». وكان الجبوري خبيراً بأطباع الرئيس، لأنه تولى إدارة مكتبه حين كان نائباً للرئيس. وشعر أن موضوع «ولاية الفقيه» يشغل بال صاحب القرار في بغداد.
نشرت كلام الجبوري والتقيت الرجل لاحقاً فأعدت طرح السؤال عليه. قال إنَّ عبارتين أقلقتا صدام وهما «ولاية الفقيه» و«تصدير الثورة». وقد يكون استنتج أنَّ المواجهة مع إيران حتمية، وأنَّه من الأفضل له أن يخوضها باكراً وعلى خط الحدود معها بدلاً من أن يرغم على خوضها في شوارع بغداد. وكرَّر الجبوري أنَّ «صدام لم يكن طائفياً بخلاف بعض ضيقي الأفق حوله، لكنَّه خاف على العراق ونظامه ونسيجه الاجتماعي من احتمال وقوع جزء من شيعة العراق في جاذبية المشروع الديني الإيراني».
لازمتِ العبارتان عمق تفكير صدام حسين. في سبتمبر (أيلول) 1979 ترأس وفد بلاده إلى قمة عدم الانحياز في هافانا. طلب وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي أنْ يراه فاستقبله في حضور صلاح عمر العلي مندوب العراق لدى الأمم المتحدة وعضو القيادة القطرية في الحزب. كان يزدي شديد المرونة واقترح تبادلَ زيارات بين البلدين لخفض التوتر على الحدود. بعد اللقاء قال صلاح إنَّ اللقاء إيجابي ويمكن البناء عليه. فقال له صدام: «يبدو أنَّ الدبلوماسية أفسدتك. لا تكرِّرْ مثل هذا الكلام. هذه الفرصة لا تتاح إلا مرة كل مائة عام. سأكسرُ رأس الإيرانيين وأسترجعُ كل شبر». وكان صدام يشير إلى ما حصلت عليه إيران بموجب «اتفاق الجزائر» الذي وقَّعه مع الشاه لضمان وقف الدعم الإيراني للحركة الكردية.
رواية ثالثة سمعتها من الفريق الركن إبراهيم الداود عضو مجلس قيادة الثورة ووزير الدفاع. قال إنَّ السفير الإيراني جاء لتقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس عبد السلام عارف، لكن الموعد تحول إلى أزمة في العلاقات. كان كل شيء طبيعياً لكن السفير نطق عبارة متفجرة. قال لعارف: «جلالة الشاه يهديك تحياته ويوصيك بأهل النجف وكربلاء». انفجرَ عارف وقال له: «خسئت. شاه إيران يوصيني بشعبي»، ورمى أوراق الاعتماد أرضاً وشتمَ السفير وطرده.
رواية أخرى سمعتها من العسكري والسياسي الصاخب اللواء الركن عبد الغني الراوي الذي أشرف على «محاكمة» الرئيس عبد الكريم قاسم وتنفيذ عملية إعدامه. أكد الراوي أنَّ السفارة الإيرانية في بغداد شجَّعته في 1969 على مغادرة العراق لتنظيم انقلاب على حكم «البعث». وأكَّد أنه شارك في اجتماعات في طهران مع رئيس جهاز «السافاك» آنذاك نعمت الله نصيري تُوِّجت باجتماع مع الشاه وحصل بعدها على دعم عسكري ومالي. نجح صدام في اختراق «مؤامرة الراوي» وأعدم وجبة من الضباط.
ذكرتني المشاهد التي نقلتها الفضائيات لموجة الاحتجاجات العراقية الدامية بالروايات التي سمعتها في السنوات الماضية خلال متابعتي الشأن العراقي. انطلقت الموجة الأعنف من الاحتجاجات من جنوب العراق، أي من منطقة شيعية للأحزاب الموالية لإيران الكلمة الفصل في شؤونها وشجونها. بلغ الغضب بالمحتجين حدَّ استهداف القنصليتين الإيرانيتين في كربلاء والنجف، أي في المدينتين اللتين حاول الشاه أن يوصي عارف بأهاليهما فكان ما كان. شكا عراقيون عبر الشاشات ومن دون مواربة من تدفق البضائع الإيرانية إلى السوق العراقية، وإلحاقها الضرر الشديد بالسلع العراقية ودعوا إلى مقاطعتها. وكان الأخطر قول المحتجين إن طهران هي التي نصَّبت المسؤولين العراقيين الحاليين.
تقضي الواقعية القول إنَّ الدور الإيراني المهيمن لم يكنِ السبب الوحيد للانتفاضة أو السبب الأول لها. الاحتجاجات انطلقت بسبب شيوع الفساد ونهب الدولة وتصاعد البطالة وفشل المؤسسات، لكن المحتجين اعتبروا أنَّ «الوصاية الإيرانية» شاركت في صناعة هذا الواقع والتغطية عليه. ثمة مسألة أخرى استوقفت المتابعين للغليان العراقي وهي اتساع الهوة بين موقفي المرجعية العراقية والمرجعية الإيرانية، ما جدَّد النقاش حول التنافس القديم بين مراجع النجف ومراجع قم الذي اتخذ بعداً جديداً بفعل التباين في الموقف من ولاية الفقيه.
الجغرافيا قدر لا يمكن زحزحته. وإيران دولة كبيرة وعريقة في الإقليم. ووجود جيرانها عريق هو الآخر. الخيار الواقعي الوحيد هو التعايش. لكن هذا التعايش سيبقى صعباً ومفخخاً ومهدداً ما لم يرتكز إلى لغة جديدة تحترم الحدود الدولية، وتبتعد عن سياسة التسلل وإمساك الأوراق داخل خرائط الآخرين. من حق أي دولة أن تسعى إلى دور ونفوذ، لكن السؤال يبقى عن الوسائل. الدور الجديد يصنع بالنموذج الجاذب والنجاح الاقتصادي وتحسين شروط حياة الناس. لألمانيا دور في أوروبا، لكنَّها لا تحاول الحصول على حق النقض في باريس أو إنشاء جيوش موازية في مدريد.
يستحيل أن تتمكَّنَ من بناء علاقات طبيعية ومستقرة مع جيرانك إذا احتفظت في دستورك بمادة تجعل من تصدير الثورة واجباً لمؤسساتك العسكرية والأمنية والدبلوماسية. نجاح إيران في إخماد حركة الاحتجاجات في أراضيها يبقى انتصاراً مؤقتاً. قواعد العالم تنطبق عليك في النهاية مهما تذرعت بخصوصية أوضاعك. الشاب الإيراني المسلح بهاتفه الذكي يريد في النهاية ما يريده الشاب العراقي واللبناني، أي العلم والعمل والكرامة والحريات. واضح أنَّ الدور الإيراني الحالي في بغداد أكبر من قدرة العراق على الاحتمال. يمكن قول الشيء نفسه عن لبنان طبعاً مع الالتفات إلى فوارق الموقع الجغرافي والتركيبة السكانية. من حقك أنْ تختارَ ما تشاء داخل حدودك، لكن ليس من حقِّك أن تفرضَ نفسك لاعباً داخل خرائط الآخرين.
غسان شربل
الشرق الأوسط