قالت صحيفة “نيويورك تايمز” إن القمع الوحشي في إيران للتظاهرات التي لم تشهد مثلها في 40 عاما على وجود الجمهورية هزها وخلف وراءه 140 قتيلا، فما بدأ كاحتجاجات على رفع أسعار البنزين تحول إلى تظاهرات واسعة.
وفي تقرير أعده فرناز فصيحي وريك غلادستون قالا إن إيران عاشت أكثر الاضطرابات دموية منذ الثورة الإسلامية عام 1979 خلفت 140 قتيلا ومئات تم رميهم في معتقلات النظام الذي استخدم القوة المفرطة لقمعها. فعندما أعلنت الحكومة عن زيادة أسعار البنزين بنسبة 50% لمواجهة العقوبات الأمريكية القاسية، خرج المتظاهرون الغاضبون وبعد 72 ساعة من القرار وطالبوا بنهاية الجمهورية الإسلامية والإطاحة بالقادة.
وردت قوات الأمن على المحتجين بالرصاص الحي، وذلك حسب روايات ولقطات فيديو جمعتها الصحيفة عن المتظاهرين الذين لم تتجاوز أعمار معظمهم عن 19-26 عاما. وبحسب الشهادات حاصر الحرس الثوري الإسلامي المتظاهرين وقتل ما بين 40 إلى 100 محتج في مدينة ماهشهر (معشور) العربية في إقليم خوزستان، ومعظهم كانوا عزلا من السلاح.
ويقول عوميد ميماريان، مدير مركز حقوق الإنسان في إيران بمدينة نيويورك، إن “استخدام القوة القاتلة في التظاهرات الأخيرة وفي عموم البلاد غير مسبوق وحتى في ظل سجل الجمهورية الإسلامية من العنف”. ويقدر عدد الذين قتلوا في أربعة أيام من الاحتجاجات ما بين 180- 450، واستخدم فيها العنف المفرط بعد إعلان رفع أسعار البنزين في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، فيما جرح ما بين 2.000 إلى 7.000 شخص حسب منظمات حقوق الإنسان الدولية وجماعات المعارضة والصحافيين الإيرانيين.
ولم يعرف حجم القمع إلا بعد رفع الحجب عن الإنترنت حيث بدأت التفاصيل عن القتل والدمار ترشح شيئا فشيئا. وتعلق الصحيفة أن آخر موجة للاحتجاجات لا تظهر حالة الإحباط من القادة الإيرانيين بل وحجم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجههم نتيجة العقوبات المدمرة التي فرضتها إدارة دونالد ترامب، والسخط المتزايد على تدخل إيران في شؤون الجيران.
وجاء الإعلان عن رفع أسعار البنزين عندما كان الناس يستعدون للذهاب إلى النوم، ودافعه سد الفجوة في الميزانية الناجمة عن منع إيران تصدير النفط ضمن إستراتيجية ترامب.
وتهدف العقوبات لإجبار إيران على الموافقة على التفاوض حول اتفاقية نووية جديدة غير التي تخلى عنها ترامب والموقعة عام 2015. وتركزت معظم التظاهرات في الأحياء والمناطق التي يعيش فيها أصحاب الدخل المتدني وأبناء الطبقة العاملة، وهو ما يظهر أن الاحتجاجات برزت من داخل قطاعات ظلت مؤيدة للمؤسسة الإيرانية منذ الثورة.
ووجه المتظاهرون غضبهم إلى المرشد الأعلى للثورة آية الله علي خامنئي، الذي قال إن القمع مبرر من أجل مواجهة المؤامرة الأجنبية التي تهدف لتدمير إيران. وأدى القمع إلى إصدار بيان تحذير نشره موقع للمعارضة لزعيم ثورة 2009 مير حسين موسوي المرشح الرئاسي الذي أدت خسارته لموجة احتجاجات في البلاد، حيث اعتقل ولا يزال منذ عام 2011 تحت الإقامة الجبرية، والذي من النادر أن يعلق على الأوضاع العامة، وحمل في بيانه المرشد الأعلى مسؤولية القتل.
وقارن موسوي أحداث القتل الأخيرة بالمذبحة التي قامت بها قوات حكومة الشاه محمد رضا بهلوي عام 1978 والتي أدت لنهاية نظامه عام 1979. وجاء في البيان: “كان قتلة عام 1978 ممثلين لنظام غير ديني أما العملاء والقتلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 فقد كانوا ممثلي حكومة دينية” و”كان القائد الأعلى في ذلك الوقت الشاه، واليوم المرشد الأعلى لديه القوة المطلقة”.
ورفضت السلطات تحديد عدد القتلى، وشجبت الأرقام غير الرسمية عن الذين قتلوا في الاحتجاجات ووصفتها بأنها تكهنات. إلا أن وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فاضلي ذكر أن تظاهرات واسعة اندلعت في أنحاء البلاد. وقال في تصريحات نقلتها وسائل الإعلام إن التظاهرات شملت 29 من 30 ولاية، فيما تعرضت 50 قاعدة عسكرية لهجمات، والتي لو صدقت لأشارت لنوع من التنسيق لم ير مثله في الاحتجاجات السابقة.
وأشار الإعلام الإيراني لمقتل وجرح عدد من قوات الأمن أثناء المواجهات. أما عن الأضرار التي أصابت الممتلكات، فشملت 731 بنكا و140 مكانا عاما، وتسع مراكز دينية و70 محطة لبيع الوقود و307 مركبة، و183 سيارة للشرطة، و1.076 دراجة نارية، و34 سيارة إسعاف.
لكن أسوأ حوادث العنف حصلت في مدينة ماهشهر وضواحيها البالغ عدد سكانها 120 ألف نسمة في جنوب غرب ولاية خوزستان وتسكنها غالبية عربية، ولديها تاريخ في المعارضة. وهي قريبة لأكبر مجمع للبتروكيماويات في البلاد، وهي بوابة إلى ميناء بندر إمام، أكبر الموانئ في إيران.
وقابلت صحيفة “نيويورك تايمز” ستة مواطنين في المدينة، بمن فيهم قائد في الاحتجاجات، وصحافي محلي يعمل مع الإعلام الإيراني، وحقق في العنف، ولكنه منع من نشر تحقيقاته، وممرضة في مستشفى ساهم في علاج الجرحى.
وقدموا جميعا رواية متشابهة عن قيام الحرس الثوري بنشر قوات ضخمة في المدينة يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر لسحق التظاهرات. واستطاع المتظاهرون السيطرة على المدينة لمدة 3 أيام حيث أغلقوا الطرق المؤدية إلى مجمع البتروكيماويات.
وأكد وزير الداخلية الأسبوع الماضي سيطرة المحتجين على المدينة، ولكن الحكومة الإيرانية رفضت الرد على أسئلة محددة تتعلق بما جرى من قتل جماعي فيها. وحاولت قوات الأمن وقوات مكافحة الشغب تفريق المتظاهرين والسيطرة على المدينة وفتح طرقها ولكنها فشلت. وحدثت عدة مواجهات ما بين السبت والإثنين قبل إرسال قوات الحرس الثوري. وعندما وصلت عند بوابة المدينة وقرب حي شاهراك تشارمان الذي تسكنه الطبقة العاملة من الأقلية العربية، بدأت بإطلاق النار وبدون تحذير على مجموعة من السكان كانوا يقفون عند تقاطع طرق، وقتلوا عددا منهم في المكان، وذلك حسب سكان قابلتهم الصحيفة عبر الهاتف.
وقال السكان إن بقية المتظاهرين تجمعوا في الأهوار القريبة، وأن أحدهم كان مسلحا ببندقية إي كي- 47 أطلق النار. ثم قام الحرس الثوري بمحاصرتهم وردوا بإطلاق النار من الرشاشات وقتلوا حوالي 100 منهم حسب السكان.
وجمع عناصر الحرس الجثث ووضعوها في شاحنة حسب السكان، فيما قام أقارب الجرحى بنقلهم إلى مستشفى ميمكو. وقال أحد المشاركين الذين ساهموا في تنظيم الاحتجاج، وهو عاطل عن العمل ويحمل شهادة كيمياء، إنه كان بعيدا بمسافة ميل واحد عن مكان القتل الجماعي، وأن صديقه وابن عمه قتلا برصاص الحرس.
وقال إن كليهما قتل برصاص أصابهما في الصدر وأعيدت جثتاهما إلى عائلتيهما بعد خمسة أيام، وبعد توقيع تعهد بعدم إقامة جنازة أو عزاء أو تقديم مقابلات للإعلام. وقال إنه أصيب برصاصة، بعدما هاجم الحرس بالدبابات حي شاهراك طالقاني الذي يعد من أفقر الأحياء، وقال إن معركة جرت بين قوات الحرس والعرب الذي يملكون أسلحة للصيد قتل فيها ضابط كبير من الحرس.
وتؤكد لقطات فيديو وتغريدات على تويتر استخدام الدبابات في الهجوم. وقالت ممرضة اتصلت معها الصحيفة عبر الهاتف إنها عالجت الجرحى في المستشفى ومعظهم أصيبوا برصاص في الصدر والرأس. ووصفت مشهدا فوضويا في المستشفى، حيث جلبت العائلات الجرحى بمن فيهم شاب عمره 21 عاما كان ينتظر زواجه بعد اسبوعين، ولكنه مات متأثرا بجراحه.
وقالت إن قوات الأمن التي كانت في المستشفى اعتقلت بعض الجرحى من المحتجين بعدما استقرت حالاتهم، وأضافت عائلات كانت تخشى من الاعتقالات أوصلت أبناءها وهربت وحاولت التغطية على هويتها.
وفي 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد نهاية العملية، تحدث ممثل المدينة في البرلمان محمد غولماردي غاضبا في تصريحات نقلها الإعلام. وقال: “لقد فعلنا ما لم يفعله الشاه الذليل” وأدت تصريحاته لمعركة مع النواب الآخرين حيث أمسكه أحدهم في عنقه.
ويقول صحافي محلي إن عدد القتلى في 3 أيام وصل إلى 130 قتيلا. وفي المدن الأخرى مثل شيراز وشهريار قتلت أعداد أخرى بعد إطلاق قوات الأمن النار على المتظاهرين العُزّل.
ويقول يوسف الشرخي، الناشط السياسي من خوزستان، ويعيش في هولندا: “لقد دفع النظام الناس إلى العنف” و”كلما قمعوهم كلنا أصبح الناس عدوانيين وغاضبين”.
ويرى المحللون السياسيون أن التظاهرات تعد ضربة لحكومة حسن روحاني المعتدلة، مما يعني أن المعسكر المتشدد سيفوز في الانتخابات البرلمانية. وقال هنري روم من مجموعة يوريشيا: “رد الحكومة كان وحشيا وسريعا ولا تنازل فيه”. ولكن التظاهرات أشارت إلى أن الكثير من الإيرانيين لا يخافون مواجهة النظام والخروج إلى الشارع.
القدس العربي