بعد مئة سنة من المواجهة مع راديكاليين عرب، يقف أمام إسرائيل، لأول مرة، عدو إيراني ذكي وخطير بلا قياس. حتى عندما تمتع الأعداء العرب على أجيالهم من تفوق عددي وعمق استراتيجي ومفاجأة عملياتية، كانوا يعانون من ضعف مجتمعهم وفشله في التصدي لمتطلبات العالم الحديث. لقد ضمن ضعف المجتمع العربي لإسرائيل نجاحات في الصراع القومي الشامل، حتى عندما اصطدمت بتفوقهم الكبير في مجال المقدرات السياسية والاقتصادية.
الحديث في النظام الإيراني وإن كان يدور عن نظام قمعي ومريض وبربري ومصمم على أن يضمن لنفسه إنجازات هيمنة في المنطقة حتى على حساب رفاهية مواطنيه؛ إلا أنه النظام يجند لصراعاته المقدرات الكبرى والمتطورة بنجاح لمجتمع مثير للانطباع ويتمتع بنفسه بقدرات مهمة للتخطيط الاستراتيجي والتصميم في العمل. لم تقف إسرائيل أمام مثل هذا الخليط الخطير الذي يقيم بنجاعة، بمنهاجية وبذكاء مؤسسة إقليمية تعرض وجودها للخطر.
إيران على وعي بالضعف البنيوي للدول العربية وتسعى بمنهاجية إلى الهيمنة الإقليمية على حسابها، وتسعى كي تضمن لنفسها سيطرة على مصادر الطاقة في الخليج الفارسي وعلى مسارات التجارة في المنطقة بشكل تبث فيه مكانتها كقوة عظمى إقليمية الأثر على الساحة العالمية. لهذا الغرض بنت لنفسها، بمعونة قوى محلية –شيعية وغيرها– مكانة متينة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، بشروط كلفة استراتيجية متدنية نسبياً، ومنفعة استراتيجية عالية حتى جداً. ونجحت في ربط قدراتها العلمية والتكنولوجية في مجالات النووي والصواريخ الباليستية وكذا في مجالات متطورة نسبياً من حيث الأدوات التقليدية. بالتوازي، أقامت شبكة عالمية من البنى التحتية النائمة للإرهاب بحجم وعمق غير مسبوق. كل هذه استهدفت، في المرحلة الحالية، ردع من يقف في طريقها إلى الهيمنة الإقليمية، أو جباية ثمن لا يطاق منه على تدخله.
إن العداء المتطرف لإسرائيل لا يعتمد فقط على التزام أيديولوجي عميق، إنما على اعتبار استراتيجي محسوب أيضاً. يمكن لإسرائيل، ولا سيما إذا كانت مسنودة بتصميم أمريكي، أن توقف تطلعات الهيمنة الإيرانية، ولديها القوة والحزم الكافيين لأن توقف سياق السيطرة الإيرانية في مهده في كل المفترقات المهمة في المنطقة، ما سيضع إسرائيل في خطر وجودي لأول مرة منذ 1948. الولايات المتحدة لن تبعث بجنودها ليقاتلوا، وأوروبا ليست ذات صلة مثلما هي دوماً، ولا يوجد للقوى العظمى الأخرى دافع للتدخل بمستوى عال في سياق متواصل وخفي يستخدم قوات محلية بحكمة.
من أجل ردع إسرائيل، تعمل إيران أيضاً للتقدم في البرنامج النووي العسكري، بما في ذلك وسائل الإطلاق، ولكي تقيم في الجبهة الشمالية بكلفة متدنية تهديداً مكثفاً على المراكز السكانية لإسرائيل. تفترض طهران بأن إسرائيل سترتدع لهذا السبب عن العمل ضد الهيمنة الإيرانية حتى حين ترى في خطواتها خطراً فورياً وجسيماً، مثل السيطرة على الأردن. ويفترض حكامها بأن إسرائيل سترتدع عن التدخل إذا عرفت بأن الكلفة ستكون آلاف الصواريخ الدقيقة، بعيدة المدى وثقيلة الرؤوس المتفجرة على غوش دان، تتفوق على الدفاع الصاروخي لدى إسرائيل وتمس جداً في قصة نجاح الدولة اليهودية.
تحاول إسرائيل منع هذه الإمكانية في السنتين الأخيرتين بمئات الهجمات في سوريا والعراق وبجملة وسائل سرية. يدور الحديث عملياً عن حرب وقائية، تجد إجماعاً وطنياً واسعاً في إسرائيل بأنه وأمام البديل الواقعي، من الجدير بالتدهور حتى المخاطرة إلى حرب واسعة مع إيران. وثمة بديلان: استمرار الصراع الحالي، بحكمة وبكبح جماح لازمين، رغم خطر التدهور إلى حرب قاسية الآن، أو حرب قاسية بلا قياس، تعرض وجود إسرائيل للخطر، حين تنهي إيران استعداداتها.
معظم التفوقات في المرحلة الحالية لإسرائيل: تفوق عسكري في الساحة القريبة، ودعم أمريكي، وإسناد خفي من الدول العربية العامة، وضائقة اقتصادية وسياسية في إيران. إذا نجحت إيران في إنهاء استعدادتها، سيميل الميزان بشكل دراماتيكي في طالح إسرائيل.
القدس العربي