كما هو معروف، تفجرت الثورة في لبنان لأسباب اقتصادية واجتماعية، لكنها حلقة من سلسلة محاولات التخلص من هيمنة قوى الأمر الواقع التي ضربت ذلك البلد منذ 30 عاماً، أي منذ توقيع اتفاق الطائف وفرضه بالقوة العسكرية والأمنية.
ظهرت موجات سابقة في التسعينيات عبر انتفاضات طلابية وشبابية، وبعد عام 2000 بدأت تحركات داخل لبنان وخارجه أدت إلى تفجير “ثورة الأرز” التي طالبت بإزالة قوى الأمر الواقع التي فُرضت بعد عام 1990. ركزت الثورة الأولى جهودها على ما كان يُعتبر وقتها السبب الرئيس في فرض طبقة سياسية، عبثت باقتصاد لبنان ونشرت الفساد على مدى 15 سنة، أي أن الثورة كانت سياسية – اقتصادية، لكن النخبة السياسية التي قادت “ثورة الأرز” منذ انسحاب قوات الأسد ومثّلتها في الحكومة، تراجعت عن شعاراتها بعد ضرب حزب الله تلك الثورة وإقامة نظام أكثر خضوعاً لإيران عبر الميليشيا. هذا الأمر كان السبب الأساسي لعودة الموجات الشعبية وخروج أجيال شابة ولِدت خلال الاحتلال السوري وشبّت تحت وطأة سيطرة حزب الله والطبقة الفاسدة، على الحكم.
صحيح أن الثورة اللبنانية الثانية –ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)- انطلقت أساساً بعد فرض ضرائب على كامل أوجه الحياة الاجتماعية في لبنان، وتفجّرت بعد الإعلان عن ضرائب غير طبيعية على استعمال تطبيق “واتساب” الذي يُعدُّ بمثابة نبض الحياة لمئات آلاف اللبنانيين. كما أسهمت الانهيارات الاقتصادية والفساد اللامحدود في تغذية الثورة.
ومن البديهي أن يربط المنتفضون هذا الفساد بطبقة سياسية تتعامل أساساً مع حزب الله الذي أنتج معادلة قصمت ظهر اللبنانيين، قائمةً على شبه مبدأ “لي سلاحي ولكم فسادكم”، ما يعني أن ثورة 17 أكتوبر هي ثورة اقتصادية – اجتماعية – سياسية، وأن حزب الله القوي في المنطقة والذي أصبح يُحسب له حساب بفعل دوره الرئيس في الحرب الأهلية السورية، وامتداده إلى العراق واليمن، والمصنَّف إرهابياً بالنسبة إلى الولايات المتحدة ودول غربية وعربية، وجناح إيران الضارب، لا يخشى اليوم سوى جماهير وطنية غير مسلحة موجودة معه على الأرض ذاتها التي تشكّل معقله، وهي تهدّده ليس بالسلاح، بل بالقيم والشعارات والمُثل التي تقدمها للقواعد الشعبية في حاضنته الشيعية خصوصاً.
ذاً، بات حزب الله الذي لا يخاف أي قوة دولية أو إقليمية، يحسب حساباً للشعب اللبناني المقهور الذي يحتجّ في طول لبنان وعرضه. وهذا أكثر ما تخشاه قيادة حزب الله، لماذا؟ لأنها تدرك تماماً أنّ حاضنته التي ساعدته في تحقيق إنجازاته وانفلاشه، تمر بأزمة سياسية واجتماعية وإلى حد ما، أزمة ثقة بالقيادة، ويكفي أن تنظر إلى ما يجري في لبنان والمنطقة وداخل إيران من احتجاجات لتعلم مدى خطورة ما يجري، ولهذا يُعدُّ استمرار التحركات السلمية أخطر ما يكون على حزب الله، لأنه يتغلغل إلى داخل حاضنته ويجعلها قوة معارضة قبل أي طائفة أخرى، للتنظيم المحسوب على إيران.
في المقابل، تتأنى قيادة حزب الله في اتخاذ قرار نهائي واضح في التعاطي مع الظروف. فهي من جهة، تحاول تخويف المتظاهرين وإيهامهم بأن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، ومن جهة ثانية، لا تريد اتخاذ قرارات ميدانية من شأنها أن تُدخل الحزب في المجهول. لذلك، يعتمد الحزب استراتيجية ثنائية تتمحور حول محاولة استيعاب ما يجري، متكئاً على عامل الوقت، إذ إنّ لديه قدرات لوجستية تمكّنه من الاستمرار مؤقتاً على الرغم من انهيار الاقتصاد اللبناني، بينما يطلق جماعاته للاعتداء على المتظاهرين، كما رأينا في مناطق لبنانية عدّة من بيروت إلى الجنوب والبقاع.
غير أن اللبنانيين عامة والمتظاهرين على وجه الخصوص الذين عاشوا تحت قبضة حزب الله لعقود، أصبحوا أكثر إدراكاً لواقعه الداخلي، وأحسنوا التواصل مع حاضنة الحزب وفهموا معاناتها واستحالة إدارة الأزمة من قبل قيادة الحزب. وبمعنى آخر، الشعب اللبناني ليس خائفاً من حزب الله وإنما خائف من قيام الحزب بتدمير لبنان.
وكجزء من البروباغندا التي اتّبعها حزب الله عندما وجد استحالةً في ضرب الثورة بالوسائل التي اعتمدها، بثّت قيادته أخباراً مزيفة، وهي أساساً تقارير فارغة تحضّرها قيادة “الحزب” وينشرها جيشه الإلكتروني وتتركز على استهداف شخصيات لبنانية قادرة على توجيه الأمور والتواصل مع المجتمع المدني، وتجهد للتشويش على مَن بإمكانه التأثير في الخارج وتحديداً في الولايات المتحدة على شرح ما يجري في لبنان للرأي العام الأميركي والكونغرس والإدارة في واشنطن. وشاءت الظروف أن أكون من بين الأميركيين الذين يحاولون مساعدة لبنان في واشنطن، ولذلك فبركت ماكينة حزب الله سلسلة من الخرافات وحاولت نشرها، من بينها أنني أحد المنظمين الكبار لهذه الثورة في لبنان ومنسقها في الخارج، ورداً أقول “يا ليت، لأنها ثورة لبنانية صنعها اللبنانيون داخل لبنان”.
اندبندت العربي