دخلت ثورة الأول من أكتوبر (تشرين الأول) العراقية منعطفاً جديداً بعد استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع والمرجعية، وأعطت الاستقالة هذه الثنائية بمشتركاتها العامة والخاصة القدرة على الرد والمبادرة، كونها تتحرك وفقاً لشرعيتين الأولى دستورية باعتبار أن الشعب مصدر السلطات، وذلك من خلال حركة الاحتجاجات العارمة لنزع الشرعية عن العملية السياسية، والثانية شرعية روحية منحتها المرجعية الدينية العليا في النجف من خلال تأييدها لمطالب المحتجين، ويُسَجل للمرجعية في هذه المرحلة صوابية تعاطيها مع أطراف الأزمة بعد إصرارها على موقفها السابق بإغلاق أبوابها نهائياً بوجه الطبقة السياسية من جهة، ومن جهة ثانية إشاراتها الإيجابية الواضحة تجاه الشارع ومطالبه، وهذا ما عزز التناغم بينهما، حيث تتصرف المرجعية بحدود قدرتها على التأثير، فيما بات الشارع مدركاً للحساسيات التي تخضع لها مواقفها، ويتجنب إحراجها حتى لا يخسرها، فيما تلتزم هي بإرشاده فقط، حتى لا تُتّهم بمصادرته أو تطويقه. وفي هذا الصدد يقول الباحث في شؤون الحوزة الدكتور علي مدن في مقال له بعنوان: «السيستاني والاحتجاجات» إن «السمة الأبرز في موقف المرجع السيستاني في الشؤون السياسية هي واقعيته، بمعنى أنه يعلق موقفه في جميع القضايا المتصلة بالسياسة على الإرادة الشعبية الحرة للمواطنين، وغاية ما يمكنه فعله هو تقديم النصح والتوجيه دون أن يكون ملزماً لأحد بتلك النصائح والتوجيهات».
ففي المواجهة المستمرة مع سلطة الخضراء، يظهر الشارع أكثر تماسكاً رغم حالة الفوضى المفتعلة التي يواجهها في مناطق متعددة وأخطرها في مدينة النجف، حيث تحاول الأطراف الداخلية والخارجية المأزومة نتيجة فشلها الأمني في إخماد حركة الاحتجاجات، وفشلها السياسي في منع الفراغ الحكومي، الإيقاع بينهم وبين المرجعية، من خلال الاستثمار في الفراغ الأمني وجرّ بعض المتظاهرين للقيام بأعمال عنف تُحرج المرجعية وتُضعف موقفها، وذلك بهدف نزع غطائها المعنوي عن المتظاهرين وإظهارهم بموقع المتهم الذي لم يلتزم بشروط السلمية التي شددت عليها بكافة خطبها منذ اندلاع الانتفاضة.
عملياً، أدت استقالة الحكومة إلى تصدعات كبيرة داخل الطبقة السياسية التي تعرضت لانتكاسة سياسية ومعنوية، وتواجه صعوبة في تجاوز تناقضاتها وخلافتها من أجل إنقاذ ما تبقى من سلطتها، وحصر الأزمة المتصاعدة بين أطرافها باستقالة الحكومة فقط، والإصرار على إنكار ما يحدث في العراق من تحولات جذرية منذ شهرين، لذلك هي على استعجال كامل من أجل تقديم البدائل من داخلها والعودة إلى التعامل مع الاحتجاجات كأعمال شغب تُخلّ بالأمن والقانون، وهذا ما سيفتح المرحلة المقبلة نحو تصعيدين خطيرين بوجه ثنائية الشارع والمرجعية من خلال شيطنة الأول (الشارع) والتعامل معه بعنف تحت حجة إعادة الاستقرار، والضغط على الثانية (المرجعية) تحت حجة منع الانزلاق إلى الفوضى، وتصوير الأزمة على أنها مؤامرة خارجية، أدواتها جماعات مندسة تديرها فلول البعث، هدفها إسقاط النظام وليس تغيير المنظومة، الأمر الذي سيكشف حجم التعنت الذي تمارسه ومدى استهتارها بمستقبل العراق وشعبه. وستلجأ إلى هذه الخيارات الخشنة نتيجة قناعتها بأن الهوة بينها وبين هذه الثنائية من المستحيل ردمها أو إعادة ترميم العلاقة معها، حيث تصطدم بتوافقات الثنائية المتمسكة بشروط شبه تعجيزية للحل، رغم اختلافهما في طرح آلية التطبيق، لكنهما مجتمعان على هدف التغيير.
حتى الآن تبدو سلطة الخضراء ومن يقف خلفها خارج الحدود غير قادرة على طرح اسم لرئاسة الوزراء يحظى بقبول الشارع، أو استحسان المرجعية، ولم تعد تملك وسيلة غير القمع من أجل الحفاظ ليس فقط على حضورها بل على وجودها، خصوصاً أن مطلب الثنائية الأساسي هو إقرار قانون جديد للانتخابات، ما سيؤدي إلى إضعاف جزء منها وإخراج جزء آخر نهائياً من المشهد، فهي عالقة ما بين القبول بشخصية من خارج الصندوق أو الاحتكام إلى نتائج الصندوق، وفي انتظار تبلور واحدة من هذه الخيارات، تبدو السلطة مُصّرة على الذهاب في مغامرتها الدموية إلى أقصى درجات العنف.
الشرق الاوسط