ما يجري في العراق إنما هو في حقيقة أمره صراع بين إرادة الشعب العراقي بكل مكوناته، وبين الهيمنة الإيرانية على مفاصل القرار الأساسية في الدول والمجتمع العراقيين، وذلك منذ سقوط نظام صدام حسين الذي تسبب في تفتيت النسيج المجتمعي العراقي، وأدخل العراق والعرب والمنطقة كلها في دوّامة عنف، ما زالت نتائجها تتفاعل وتتفاقم.
فالعرب السنة كان في مقدورهم أداء دور توحيدي بين الجنوب العربي الشيعي والشمال الكردي السني، وذلك بعد أن توافقت إرادات الدول على تشكيل دولة العراق الحديث بعد الحرب العالمية الأولى. غير أن حزب البعث، وفي عهد صدام تحديداً، أدى دوراً يتناقض بالجملة مع المطلوب، إذ ضرب الشيعة والكرد. ورغم أن بطش صدام امتد إلى العرب السنة أيضاً، إلا أنه كان يظهر في مظهر من يمثلهم؛ وقد استفاد الكثير من السنة من هذا الدور، وتماهوا معه عاطفياً، حتى أن النسبة الغالبة منهم رفضت الانخراط في العملية السياسية التي انطلقت بعد سقوط النظام عام 2003.
وتاريخ العراق الحديث لا يختلف كثيراً من جهة الجوهر عن تاريخه القديم. فعلى مدى العصور، كانت الدولة العراقية القوية قادرة على الدفاع عن نفسها، ووضع حد لنفوذ القوى الإقليمية المجاورة، التي كانت لها باستمرار أطماع في العراق، خاصة من جانب إيران القديمة التي كانت بلاد الرافدين بالنسبة إليها دوماً بوابة الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. وكانت تتحين الفرص في حالات ضعف الدولة العراقية من أجل التمدد، والهيمنة.
ثم كان الصراع بين الإيرانيين الفرس والإغريق، واستمر الحال هكذا حتى جاء الحكم العربي الإسلامي، ومن ثم العثماني، وقبله هجوم هولاكو على بغداد.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، ومع انبعاث رائحة النفط، ركز البريطانيون جل اهتمامهم على احتلال المنطقة، وتأسيس دولة العراق الحديث بما وينسجم مع حساباتهم. وأقاموا فيه النظام الملكي الذي قاده الملك فيصل بين الشريف حسين 1921، وذلك بعد أن أبعده الفرنسيون عن سوريا سنة 1920.
ملخص القول: إن الحالة التي يعيشها العراق حالياً سببها الأساسي هو ضعف الدولة العراقية، الأمر الذي أتاح للنظام الإيراني التسلل إلى داخل بنية الدولة عبر مختلف الأحزاب والقوى والميليشيات التي ارتبطت به بأشكال عدة، ولأسباب مختلفة، حتى باتت جزءاً عضوياً من النظام المذكور نفسه، تسير بموجب الأوامر والاملاءات الآتية من جانب نظام ولي الفقيه، عبر مختلف أجهزته العسكرية والاستخباراتية.
أما التأثير الأمريكي على ترتيب الأوضاع العراقية، فيبدو أنه لم يكن بقوة وحجم الدور الإيراني. إلا أنه كان من الواضح أن التوافق بين الطرفين كان حجر الزاوية للتوافق على أسماء الرئاسات الثلاث، وتشكيل الحكومة. ولكن رغم ذلك التوافق، فإن تأثير إيران كان أكبر، وذلك بحكم تغلغلها، وقربها، وحجم تواجدها على الأرض العراقية، إلى جانب علاقاتها المباشرة مع فصائل الحشد والميليشيات العسكرية الأخرى، التي لم تتستر يوماً على خضوعها للنظام الإيراني، والتزامها بالتوجيهات والأوامر الأمنية التي تأتيها من قبل الأخير.
وقد تمكنت هذه الميليشيات من إبعاد القوى العراقية الوطنية التي كانت، وما زالت، تدعو إلى العمل الوطني العابر للحدود المذهبية، وهي الحدود التي ثبّتها ورسخها، واستثمر فيها النظام الإيراني، حتى انه استطاع نتيجة نفوذه هذا من إدخال الميليشيات المرتبطة به ضمن دائرة المنظومة العسكرية الدفاعية العراقية، تحصل على المال والسلاح من الميزانية العراقية، وتجنّد المواطنين العراقيين، ولكن القيادة تبقى بيد النظام الإيراني، وتكلف بمهمات لصالح الاستراتيجية الإيرانية.
ولكن الثورة الشعبية العراقية، خاصة في المناطق الجنوبية، في الناصرية والبصرة والنجف نفسها وبغداد، قد أماطت اللثام عما يجري، وبات الناس يطالبون علناً بكف يد النظام الإيراني عن العراق وأهله، ليتمكن العراقيون من إيجاد الحلول لمشكلاتهم بأنفسهم. وهي مشكلات معيشية، تربوية، صحية في المقام الأول، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام السابق من معالجتها، رغم الإيرادات المالية الخيالية التي من المفروض أن العراق يحصل عليها لقاء تصدير النفط. ولكن يبدو أن حالة الفوضى المنظمة التي يعيشها البلد، مكّنت الفساد من تحويل تلك المبالغ إلى حسابات المسؤولين الخاصة؛ أو إلى حسابات تدور حولها الشبهات من ناحية كونها تخدم الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، بما في ذلك دعم نظام بشار الأسد في سوريا في مواجهة ثورة الشعب السوري.
المشكلة في العراق عميقة بنيوية، لها علاقة بتركيبة الدولة، وقدرة الميليشيات على الضغط والتدخل، وفرض الإملاءات على الحكومة بدعم مباشر وغير مباشر من النظام الإيراني.
وقد كانت أوضاع المنطقة غير المستقرة، ومزاعم محاربة الإرهاب، من المبررات التي اعتمدتها الحكومات التابعة لإيران من أجل التهرب من استحقاقات المساءلة والمحاسبة. ولكن بعد أن انكشفت حصيلة التراكمات السلبية الهائلة، تبين للناس أن ما يجري في العراق ليس نتيجة الوضع غير المستقر في المنطقة، بل أنه سببه؛ وأن مزاعم محاربة الإرهاب الداعشي تحوم حولها الكثير من الشكوك، خاصة إذا تابع المرء خريطة الهجمات الداعشية في العراق، ودقق بإمعان في طبيعة الجهات المستفيدة من فزّاعة داعش.
ومع تشكيل حكومة عادل عبد المهدي، توقع الجميع نوعاً من الاستقرار، وفُهم أن التوافق على عبد المهدي كان حصيلة التوافق الأمريكي – الإيراني؛ ولكن يبدو أن التراكمات السلبية الضخمة التي واجهتها حكومة عبد المهدي في سائر الميادين الحياتية تقريباً كانت أكبر من طاقة الحكومة المعنية، لذلك كان الانفجار الشعبي الكبير الذي وضع الجميع أمام مسؤولياتهم. فقد طفح الكيل، ولم يعد في وسع الناس المزيد من التحمل.
ويبقى السؤال: وما هو الحل؟
الحل الأنجع والأفضل للعراقيين بكل انتماءاتهم هو الحل الوطني العراقي، وأساس هذا الحل هو بناء نظام سياسي وطني، يضمن حقوق سائر المواطنين من جميع الانتماءات، وفي جميع المجالات من دون استثناء على قاعدة احترام الخصوصيات، وضمان الحقوق، واعتماد مبدأ التعددية بمعناه الواسع ضمن إطار الوحدة الوطنية التي تقطع الطريق أمام كل التدخلات الخارجية، لتكون مصلحة العراقيين وبلدهم على رأس قائمة الأولويات لأية حكومة عراقية قادمة، منبثقة عن برلمان منتخب عبر الإرادة الحرة للمواطنين.
أما أن يظل العراق حديقة خلفية للنظام الإيراني، يمارس من خلالها سياسة زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، ويتدخل في شؤون دولها، ويمزق مجتمعاتها، فهذا معناه أن الأزمة ستستمر، بل وستشتد أكثر، وسيكون المستقبل القاتم هو الذي ينتظر العراق، وربما المنطقة كلها.
ومن هنا تأتي أهمية الموقف الدولي، والأمريكي تحديداً باعتباره الأكثر تأثيراً من غيره في العراق. فالمطلوب هو التدخل، ومنع النظام الإيراني والميليشيات التابعة لها من الفتك بالنشطاء، وتهديد المتظاهرين والمعتصمين، والمراهنة على عوامل الوقت والاحتواء وتمزيق الصفوف، وإثارة النزعات المذهبية والمناطقية.
الدولة الوطنية العراقية التي تكون بكل أبنائها، ولكل أبنائها، الدولة التي تأخذ الخصوصيات بعين الاعتبار، وتعتمد النظام السياسي والإداري المنسجم مع طبيعة وحاجات المجتمع العراقي، وتأخذ الهواجس والتجارب السابقة بعين الاعتبار، هي المخرج.
أما الاستقواء بالخارج، فهو لن يؤدي إلا إلى المزيد من التباعد بين العراقيين، وتفاقم المشكلات إلى حد تصبح عنده كل الاحتمالات الضارة متوقعة.
عبدالباسط سيدا
القدس العربي