لا يمكن الحديث عن سياسة الاغتيالات والتصفيات الإسرائيلية لقيادات ورموز المقاومة الفلسطينية، في البداية وصولا إلى اغتيال قيادات ورموز أيضا لعناصر مقاومة وعناصر عسكرية عربية، بدون العودة إلى نقطة البداية في سياسات الاغتيالات، وما عرف في أواسط السبعينيات بحرب الأشباح بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال، عبر وكلاء الموساد.
ومع أن كثيرين يحددون عملية ميونخ، واختطاف الرياضيين الإسرائيليين لمقايضتهم بأسرى فلسطينيين، ثم فشل تحرير الرهائن ومقتلهم في العملية التي بدأت في السادس من سبتمبر/ أيلول عام 1972 باعتبارها الشرارة التي أطلقت عمليات الانتقام الغريزية في دولة الاحتلال، بقرار من أعلى هيئة في إسرائيل هي رئيسة الحكومة آنذاك، غولدا مئير، للاقتصاص والثأر من منفذي العملية، ومطاردتهم أينما كان، فإن اغتيال غسان كنفاني وابنة أخيه لميش بطرد مفخخ في الثامن من العام نفسه، أي قبل العملية بشهرين، يبين أن حرب الاغتيالات كانت معتمدة لدى دولة الاحتلال كسياسة حتى قبل العملية، بما يؤكد البعد الغرائزي الهمجي لعمليات اغتيال قادة منظمة أيلول الأسود.
في تلك الفترة أقرت الحكومة الإسرائيلية أيضا عملية مطاردة قادة منظمة أيلول الأسود واغتيالهم، وحملت المهمة التي أوكلت للموساد آنذاك اسم “غضب الرب”. وفي خلال هذه الحرب بين الموساد وقادة أيلول الأسود، ثم باقي مقاتلي وقيادات منظمة التحرير، كان وائل عادل زعيتر، الذي قتل رميا بـ12 رصاصة أمام مبنى سكنه في روما في السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، أما آخر ضحايا هذه الحملة فكان الشهيد علي حسن سلامة الذي استشهد عند تفجير سيارة بالقرب من سيارة كان يركبها في بيروت في 22 يناير/ كانون الثاني عام 1979.
بين العمليتين الأولى والأخيرة ضمن حملة “غضب الرب” الانتقامية، طاولت الاغتيالات الإسرائيلية عشرات القيادات الفلسطينية والرموز في كافة الحقول، العسكرية والسياسية والإعلامية والثقافية، ومن مختلف فصائل منظمة التحرير، سواء عبر رسائل مفخخة أو رميا بالرصاص، أو في عمليات عسكرية لوجيستية معقدة تشي بتواطؤ أجهزة في الدول التي وقعت فيها هذه العمليات، كما في سياق عملية فردان في قلب بيروت التي اغتال فيها فريق كوماندوس من سرية الأركان، قاده إيهود براك، ثلاثة من قادة حركة فتح: كمال عدوان، كمال ناصر ويوسف النجار. كما جرت محاولات لاغتيال بسام الشريف، الناطق الرسمي في حينه باسم الجبهة الشعبية، بعدما تسلم مهام الشهيد غسان كنفاني، وأصيب هو الآخر بفعل طرد ملغوم بإصابات بالغة في وجهه.
وعلى مدار عقدين، من العام 1972 وحتى سنوات الانتفاضة الأولى، لم توقف دولة الاحتلال الاغتيالات والتصفيات، التي تمت بأغلبيتها في العواصم الأجنبية والدول الأوروبية، لسهولة تحرك عملاء الموساد، وخاصة أن للموساد قواعد وعلاقات رسمية في بعض الدول الأوروبية، لا سيما ألمانيا وبريطانيا وفرنسا (مثلا كانت تسيبي ليفني مسؤولة خلال عملها في الموساد عن شقة لإخفاء العملاء وقت الضرورة، في العاصمة الفرنسية باريس).
ظلت عملية فردان مميزة بنوعها، من حيث إرسال فرقة عسكرية كاملة لتنفيذ الاغتيالات، حتى جاءت عملية اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد ) في تونس، التي كشفت تفاصيلها اللاحقة عن حجم التخطيط والتنظيم اللوجيستي الذي اقتضته العملية بما في ذلك مراقبة سير العملية من قبل رئيس أركان جيش الاحتلال، وقادة الحكومة الإسرائيلية، في تلك الفترة تحت رئاسة إسحاق شمير في حكومة الوحدة الوطنية الأولى، التي شغل فيها رابين منصب وزير الأمن، بمقولته الشهيرة لتكسير أيادي وعظام الفلسطينيين لكسر الانتفاضة.
شكل اغتيال أبو جهاد في إبريل/ نيسان من العام 1988 تطورا لافتا في عمليات التصفية والاغتيالات، مع تشكيل لجنة خاصة من الموساد وجهاز الشاباك، لجمع المعلومات، وتحديد أهداف فلسطينية للتصفية، أملا في ضرب هرم القيادة العسكري لمنظمة التحرير وقيادة الانتفاضة. بموازاة ذلك ميدانيا، بدأت قوات الاحتلال بالاعتماد على شبكة الشاباك الواسعة في الضفة لغربية، بمحاولات وأد الانتفاضة الأولى عبر تحديد قوائم لعناصر ميدانية، من مختلف الفصائل المشاركة في الانتفاضة، وإعدامهم ميدانيا حتى ولو كانوا غير مسلحين، أو في بيوتهم، وقد بلغت هذه السياسة أوجها بين عامي 1991 و1992 مع اشتداد حضور مجموعات مثل الفهد الأسود التابعة لفتح في منطقة نابلس وجنين وطوباس، والنسر الأحمر التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وشن حرب على صقور فتح في قطاع غزة، بعمليات اغتيال ميدانية عبر وحدتين خاصتين، هما “شمشون” و”دوفدوفان”.
اعتمدت سياسة الاغتيالات في تلك الفترة على منطق إسرائيلي يرى أن ضرب رأس التنظيم أو الجهاز سيضعفه بشكل فوري ويساعد دولة الاحتلال في كسب الوقت لمواجهة الانتفاضة، أو إدارة الصراع مع المنظمة، بفعل الوقت الذي يستغرقه دخول قائد بديل خلفا لمن تم اغتياله، كما حدث في حالة أبو جهاد، في القيادات العليا، وفي إرباك نشاط المجموعات المسلحة للانتفاضة الأولى بعد اغتيال وقتل القادة أو العناصر الميدانيين.
بعد اتفاق أوسلو خفت العمليات والاغتيالات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، لكن قبل ذلك بعام، في العام 1992 اغتالت إسرائيل الأمين العام لحزب الله، عباس موسوي، أملا بأن يؤدي ذلك إلى ضرب الحزب وإضعافه، لكن النتائج كانت عكس ذلك، بحسب مصادر إسرائيلية، أقرت بأن سياسة الاغتيالات خضعت في تلك الفترة لموازين الربح والخسارة، وفحص مدى جدواها.
ظلت الاغتيالات والتصفيات قائمة في خيار حكومة الاحتلال، وإن كانت قد خفت خلال السنوات التي تبعت توقيع اتفاق أوسلو، إلى أن تجددت مرة أخرى ولكن بطريقة أكثر منهجية وأكثر دموية مع اندلاع الانتفاضة الثانية، وكون المستهدفين باتوا في الحيز الجغرافي الذي تسيطر عليه إسرائيل برا وجوا وبحرا، أي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
كان الشهيد حسين عبيات، الذي اغتيل في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 أول ضحايا سياسة الاغتيالات الجديدة، مع تطور وحشية تنفيذ هذه الاغتيالات عبر قتله بصاروخ أطلق من طائرة أباتشي، وهو نمط سيتكرر في عمليات اغتيال لاحقة كما في حالة الشهيد أبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي اغتيل بتاريخ 27 آب/ أغسطس 2001 عبر قصف مكتبه في رام الله بصاروخ أطلق من طائرة أباتشي.
وتكررت عمليات الاغتيال بهذه الطريقة في عملية اغتيال مؤسس حركة حماس، الشهيد الشيخ أحمد ياسين، حيث تم إطلاق صواريخ باتجاهه وهو خارج من صلاة الفجر في 22 آذار/ مارس 2004.
وبلغت همجية الاحتلال ذروتها في عملية اغتيال القيادي في حركة حماس صلاح شحادة في 22 تموز/ يوليو 2002 عبر إلقاء قنبلة بزنة طن على بيته، ما أسفر أيضا عن استشهاد 15 مدنيا كانوا في المبنى، وهو ما تكرر خلال عدوان الجرف الصامد في 2014 عندما قصفت إسرائيل مبنى ظنت أن قائد الجناح العسكري لحماس محمد ضيف تواجد فيه، وأسفر القصف عن استشهاد عدد من أفراد أسرته.
ومنذ العودة لسياسة الاغتيالات بعد الانتفاضة الثانية، طورت إسرائيل من وسائل القتل، عبر زيادة الاعتماد على عمليات القصف من بعيد، عبر مقاتلات إسرائيلية، ثم طورت بعد عملية الرصاص المصبوب في العام 2008، وخلاله جرى استهداف القادة العسكريين بالأساس عبر الطائرات المسيرة بعد تلقي معلومات عن مواقع وجود هؤلاء القادة والعناصر ومراقبتهم عبر كاميرات طائرات الاستطلاع، وبالاعتماد على معلومات استخباراتية دقيقة، وقد تجلى ذلك بشكل خاص في العمليتين الأخيرتين، اغتيال بهاء أبو العطا ومحاولة اغتيال أكرم العجوري في الليلة نفسها في دمشق.
شرعية من القضاء الإسرائيلي
منحت المحكمة الإسرائيلية العليا شرعية لعمليات الاغتيال وجرائم الإعدام التي تقوم بها دولة الاحتلال، بعد التماس قدمته منظمات حقوقية إسرائيلية ضد سياسة الاغتيالات في العام 2014، بالاعتماد على كون هذه الاغتيالات مناهضة للقانون الدولي، ولأنها تشكل محاكمات وعمليات إعدام ميدانية. وقالت المحكمة الإسرائيلية في قرار لها في يوليو/ تموز 2006: “إنه لا يمكن التحديد بأن كل عملية تصفية عينية هي محظورة بحسب القانون الدولي، كما لا يمكن التحديد مسبقا بأنها مسموحة”.
مع ذلك لم يصدر أي قرار إسرائيلي قضائي يُحاسَب بموجبه مسؤول إسرائيلي عن جرائم اغتيال كهذه، وظل حق إقرار تنفيذ مثل هذه الجرائم ممنوحا للأذرع الأمنية، وخاصة جهازي الشاباك الذي وفر ملف المعلومات عن أهداف فلسطينية، وجهاز الموساد الذي يعد ملفات الأهداف المطلوب تصفيتها خارج حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل قيادات في حزب الله في سورية ولبنان، وحتى ماليزيا، كما في حالة محمد المبحوح الذي اغتيل في يناير 2010 داخل فندق في دبي، وفادي البطش في ماليزيا، واغتيال محمد الزواري في ديسمبر/ كانون الأول 2016 في تونس.
العربي الجديد