أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، نهاية عام 2019 عزمها فتح تحقيق في ارتكاب جرائم حرب محتملة في الأراضي الفلسطينية، وأعربت عن قناعتها “بأن جرائم حرب ارتكبت بالفعل أو ما زالت ترتكب في الضفة الغربية بما يشمل القدس الشرقية وقطاع غزة”.
كان إعلان المدعية العامة أبرز ما أنهى به الفلسطينيون عامهم على المستوى الدولي، على الرغم من أن الإعلان يتساوى فيه الضحية والجلاد فالمسكوت عنه في كلام المدعية يشمل توجيه الاتهامات للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وتصدر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية مايك بومبيو لمجرد الإعلان هذا، وقال إن بلاده تعارض “بحزم” فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا في جرائم حرب إسرائيلية محتملة.
قبل شهر من إعلان المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية عن نيتها فتح تحقيق كانت إسرائيل تشن عدواناً لا هوادة فيه على قطاع غزة وقتلت 35 فلسطينياً، بينهم ثمانية شهداء من عائلة واحدة وسط القطاع في جريمة اعترفت في وقت لاحق بأنها بالخطأ، وبدأ العدوان بعدما اغتالت أبرز قادة سرايا القدس في القطاع بهاء أبو العطا، وشنت إسرائيل عدوانها بعد يوم واحد من زيارة المبعوث الأممي للسلام في الشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف لقطاع غزة ولقائه الفصائل الفلسطينية؛ وكان مركز اللقاء حديث الوسطاء الدوليين والإقليميين عن الهدنة وتثبيت التهدئة.
لم تخرج مسيرة شعبية أو حزبية أو سياسية في أية عاصمة عربية أو إسلامية تدين الاعتداء، اكتفى البعض في لبنان والعراق خلال المظاهرات اليومية التي تشهدها الدولتان برفع بعض اللافتات وإشعال الشموع، لكن لم يكن هناك توجه شعبي عام يرفض الجرائم الإسرائيلية على غرار ما كان يحدث أو مثلما حدث في الاعتداءات السابقة، ولم يكن هناك تعاطف بدت غزة كما لو أنها منعزلة عن عمقها العربي والإسلامي رغم فداحة ما ارتكبته إسرائيل خلال اليومين، لا تقتصر ردة الفعل على غزة، بل حتى في الضفة لم تعد ممارسات الاحتلال هناك اعتقالاته وتوغلاته وهدمه للبيوت وتهوديه للأرض وتدنيسه للمقدسات واقتحامات مستوطنيه للأقصى محل اهتمام عربي أو إسلامي.
حتى المبعوث الأممي الذي يُفترض في ذكره أن تحضر كل مواد القانون الدولي الإنساني وحصانتها لم يتوقف عند ما حدث وكأن قتل 35 إنسانا فلسطينيا حدث عابر، بل إن الرجل لم يراجع إسرائيل في ما يتعلق بمصداقية لقاءاته ووعوده للفصائل في اليوم السابق للعدوان.
غابت فلسطين من أجندة الاهتمام العربي والإسلامي بشقيه الرسمي والشعبي لحساب الثورات في السودان ولبنان والعراق وحراك الجزائر، وباتت أخبار الربيع العربي في موجته الجديدة تتقدم الاهتمامات بينما لم تعد القضية الفلسطينية محل اهتمام أو على الأقل لم تعد كما كانت تثير الاهتمام.
تلاشي الاهتمام أو انتقال فلسطين من عمق الاهتمام ومركزه إلى الأطراف، وأصبح الاعتداء على القدس والمسجد الأقصى وقتل الأطفال في قطاع غزة خارج سياق التعاطف والدعم والاهتمام الذي لازم القضية الفلسطينية طوال منذ النكبة، التقطته إسرائيل ووظفته في تمرير كل ما تريده وتسعى إليه، واستغلت انشغال العرب بربيعهم وثوراتهم وأوضاعهم الداخلية، فعمدت إلى تكرار اقتحامات المسجد الأقصى وتوسعة المستوطنات في القدس، ورغم ذلك لم تعيد هذه الممارسات الحاضنة العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية وبات التطبيع والاقتراب من إسرائيل يتم على وقع كل هذه الممارسات.
لم تعد القضية الفلسطينية القضية المركزية للعرب ولم تعد رمانة الميزان في الحسابات الإقليمية والإسلامية، وبات العدوان على غزة والاعتداءات في الضفة تمر مثل أي حدث عادي في الوعي التعاطي العربي والإسلامي، بل ربما تمر ببرود ويستقبل العدوان الإسرائيلي بلا مبالاة في الشارع وفي الدوائر الرسمية العربية والإسلامية. بل إن الموجة الثانية من الثورات العربية لم تعد تستدعي القضية الفلسطينية كما كان الحال في الموجة الأولى من الثورات وبات الشغل الشاغل للثوار والمنتفضين هو قضايا الحرية في بلدانهم وصياغة الدساتير وحقوق الإنسان ومواجهة القمع الذي يتعرض له المتظاهرون. لم يعد الشارع العربي قادرا على متابعة القضية الفلسطينية على حساب قضاياه وثوراته. وربما كان الواقع الفلسطيني مسؤولاً عن جزء من تراجع هذا الاهتمام وتراخيه وربما تلاشيه مستقبلا إذا استمر الانقسام الفلسطيني على حاله. واستمر تصوير إظهار الأمر للشارع العربي والإسلامي، وكأنه صراع على السلطة بين سلطتين، هما حركتا “حماس” و”فتح”.
لم يكن تراجع القضية الفلسطينية ورجوعها من المركز إلى أطراف الاهتمام هو الحدث الأبرز، لكن القضية الفلسطينية خسرت عندما انفتحت الأنظمة العربية على إسرائيل وبات التطبيع العلني وتبادل الزيارات بين المسؤولين العرب ونظرائهم الإسرائيليين يمر ويحدث على وقع كل الممارسات والاعتداءات الإسرائيلية. وانتقل التطبيع من حرصه على إيجاد حل للقضية الفلسطينية إلى تجاوز ذلك وبدأت العلاقات العربية – الإسرائيلية تمر وتتطور بمعزل عن القضية الفلسطينية ودون اشتراط لإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية وتقرير الشعب الفلسطيني لمصيره وإقامة دولته.
مجموعة أسباب بعضها ذاتي فلسطيني؛ وبعضها موضوعي عربي؛ وبعضها خارجي بفضل ما يشهده العالم بعد وصول الرئيس الأميركي ترامب لحكم البيت الأبيض؛ وبعضها بقدرة توظيف إسرائيلية، تراجعت القضية الفلسطينية ولم تعد قادرة على أن تكون قضية العرب الأولى أو قضيتهم المركزية، لم تعد حاضرة في أجندات الساسة وجداول الزيارات والمؤتمرات الأممية والدولية، بل إن قمة ماليزيا الإسلامية مؤخرا والتي حضرها بعض الفلسطينيين لم تدرج بندا للقضية الفلسطينية من بين سبعة بنود اختتمت بها القمة بيانها واكتفت بالعموميات التي تدعو لإصلاح واقع الأمة.
حتى على مستوى الشارع وهتافات الطلاب والمتظاهرين والرافضين للأنظمة الرسمية تراجعت، رغم أن إسرائيل لم توقف ممارساتها وعدوانها وتهويدها، إلا أن العالم لم يعد مهتما بممارساتها تلك أو إدانتها، أو التوقف عن الاقتراب منها والتطبيع معها. لا يعني ذلك أن العالم لم يعد يهتم بالقضية الفلسطينية بقدر ما يعني أن الفلسطينيين لم يعد بمقدورهم إيصال قضيتهم ولفت الانتباه إليها، وأنهم لم يجتمعوا على قلب رجل واحد ولم يتفقوا أو يتوافقوا على برنامج وطني واحد ورواية واحدة تضمن لهم النهوض بواقعهم وقضيتهم ورايتهم ومظلوميتهم وتوحّد صفهم وتلفت نظر العالم والإقليم إليهم وإلى قضيتهم وتفضح زيف ما تقوم به إسرائيل. هذا الحصاد المر لموقع القضية الفلسطينية وواقعها يقتضي وقفة فلسطينية رسمية وفصائلية وشعبية لمراجعة الحاضنة العربية والإقليمية بشقيها الرسمي والشعبي، والعمل على إعادة إحياء القضية الفلسطينية من جديد، لعل ذلك ينجح في كبح جماح حالة التطرف الإسرائيلية والعداء الأميركي الواضح للحقوق الفلسطينية، وينهي هذا الضياع الذي تعيشه القضية الوطنية الفلسطينية. وهذا الأمر يتوجب على الفلسطينيين أن يبدؤوا فيه أولاً، وألا يسمحوا باستمرار ضياع قضيتهم الوطنية في أتون الأحداث الجارية والمتسارعة في المنطقة والعالم كله.
العربي الجديد