بعد ساعاتٍ قليلة من تأكيد إيران مقتل قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني قاسم سليماني في العراق، أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي بياناً وصف فيه أولئك الذين سفكوا دماءه بأنهم “أردأ جنس البشر”. وبعد أن دعا سليماني الرمز الدولي “للمقاومة”، أعلن الحداد العام في إيران لمدة ثلاثة أيام. كما أعلن أن “ثأراً قاسياً ينتظر المجرمين” الذين قتلوا سليماني – وهو فعلٌ تبنّت الولايات المتحدة مسؤوليته قبل حديثه. وكرر مسؤولون آخرون رفيعو المستوى التعبير عن هذا الشعور، من بينهم الرئيس حسن روحاني، ورئيس البرلمان علي لاريجاني، ووزير الدفاع أمير حاتمي الذين توعّدوا صراحةً بـ “الثأر” من “كافة أولئك” المتورطين في عملية الاغتيال.
لكن على الرغم من هذا الخطاب، ورغم دور سليماني الفريد من نوعه في تنفيذ سياسة إيران الإقليمية المتّسمة بالمغامرة والحرب غير المتكافئة، فقد يتفادى النظام الانتقام الكبير والفوري إذا رأى أن هذه الخطوة مكلفة جدّاً أو أنها تشكّل مسبباً محتملاً لنزاعٍ عسكري خطير مع الولايات المتحدة. ففي 1 كانون الثاني/يناير، ووسط تصاعد التوترات في العراق ولكن قبل مقتل سليماني، قال خامنئي: “لن نجرّ البلد إلى الحرب… لكن إذا أراد الآخرون فرض شيءٍ ما على هذا البلد، سنواجههم بقوة”. وردّاً على جزم الرئيس ترامب أن إيران أدّت دوراً في أعمال الشغب التي حدثت في 31 كانون الأول/ديسمبر في سفارة الولايات المتحدة في بغداد، أخبر خامنئي المستمعين أنه يودّ توجيه رسالتين إلى واشنطن هما: “أولاً، كيف تجرؤون! لا علاقة لإيران بالأمر. وثانياً، عليكم التفكير بمنطق وفهم السبب الرئيسي لهذه المشاكل. لكنهم بالتأكيد لا [يفكّرون بمنطق]”.
في الأيام القادمة، من المرجح أن يكرس النظام الجزء الأكبر من اهتمامه لتنظيم مراسم دفن وعزاء على مستوىً عالٍ يليق بسليماني. ففي النهاية، أظهرت الدعاية الحكومية هذا القائد على أنه بطل وطني في العقد المنصرم، مروّجةً لجهوده في الدفاع عن البلاد ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وضد أعداء آخرين خطيرين. كما أنها سلّطت الضوء على دوره في الخارج بهدف التشديد على أن “المقاومة” أكثر فعاليةً من المفاوضات في التعامل مع التهديدات المتأتية من الولايات المتحدة – وهي الطريقة التي يعتمدها النظام للتقليل من أهمية الجهود الدبلوماسية التي يبذلها الرئيس روحاني وإنجازاته في السياسة الخارجية حول الاتفاق النووي وقضايا أخرى. وتشمل الأمور الأخرى السابقة لتكريم سليماني طباعة ختمٍ يحمل صورته، وبثّ مئات الساعات من البرامج التلفزيونية والإذاعية لتمجيد شخصيته وتضحياته، وإصدار شركة الإنتاج التابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني “موج” (Moj) فيلماً عنه.
ونظراً إلى هذه المسيرة الطويلة من الإشادة بسليماني، ربما ستكون فترة الحداد عليه هي الثانية من نوعها بعد الراحل روح الله الخميني من حيث النطاق. وقد يستفيد النظام الإيراني من عظمة المناسبة لصرف انتباه الناس عن الأزمات المحلية الأخيرة – أهمها احتجاجات البنزين في تشرين الثاني/ نوفمبر وحملة القمع التي شنّها النظام لاحقاً، والتي لا يزال الكثير من الإيرانيين يعانون من نتائجها العنيفة ويأسفون عليها. وسيتماشى ذلك مع استخدام الدولة في الماضي لسليماني كرمز لإثارة المشاعر الوطنية بين تلك الطبقات الاجتماعية التي تفقد التزامها بالإيديولوجيا الإسلامية الخاصة بخامنئي و/ أو احترامها لشرعية النظام.
وبالفعل، ربما أصبحت النسخة العسكرية والمصطنعة بعناية من الوطنية هي الأداة الأقوى في يد النظام من أجل الحشد، مما يعوّض عن تراجع جاذبية الأسس الإسلامية. فعلى سبيل المثال، عكَسَ هذا الشعور محمود دولت آبادي – وهو روائي إيراني مشهور يُعتبر يساريّاً وعلمانيّاً، وحتى مفكّراً مناهضاً للنظام لَم يسبق له أن كان مؤيّداً للدولة – في مقابلةٍ أجريت في آب/أغسطس 2015 في المجلة الشهرية “مهر” (Mehr Nameh)، حيث أعرب عن إعجابه بسليماني وشدد على الحاجة الماسّة إلى تقديم الدعم لقواته والقوات العسكرية بشكلٍ عام نظراً إلى كيفية “حمايتها للبلاد”. وعلى نحوٍ مماثل، فور انتشار خبر وفاة سليماني، بدأ الموالون للنظام والمسؤولون مثل وزير الاتصالات محمد جواد آذري جهرمي باستخدام العبارة الفارسية “كلنا معاً” كهاشتاغ في المنشورات ذات الصلة على تويتر، في محاولةٍ لإعطاء الانطباع بأن كافة الإيرانيين يحدّون عليه بغض النظر عن آرائهم السياسية.
ونظريّاً، يمكن لهذه الدعاية ولهذا الحداد المبالغ فيه أن يعززا جهود النظام لإعادة صياغة الرأي المحلّي بعدّة طرق. أولاً، يمكن أن يساعدا المسؤولين في تبرير اتّباع سياسة إقليمية حتى أكثر عدوانيةً. ثانياً، قد يحاول «الحرس الثوري» الإيراني ترميم صورته من قامعٍ للاحتجاجات غير العنفية وللمجتمع المدني إلى حامٍ للأمّة – ويعني ذلك ضمناً أنه يستحق الاحترام من المواطنين بغض النظر عن إيديولوجيتهم أو آرائهم بشأن شرعية النظام. ثالثاً، يمكن أن يعزز الحداد الموحّد على سليماني فكرة أن مختلف الفصائل الحكومية توافق على النهج العدائي الذي يعتمده النظام في السياسة الخارجية – وهي طريقة مفيدة لإخفاء الاقتتال السياسي الداخلي والتفكك المتسارع بين نخبة النظام قبل الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها الشهر المقبل.
مهما كانت أهداف النظام، لن يشكّل الحداد على وفاة سليماني رد فعل جميع الإيرانيين على مقتله. ففي الواقع، سبق أن احتفل بعض المواطنين بوفاته على وسائل التواصل الاجتماعي. وبصرف النظر عن الدعاية، الحقيقة هي أن العديد من الإيرانيين بدأوا يرونه كرمز للسياسة الإقليمية الفاشلة للنظام وليس كبطلٍ وطني – لا سيما بعد أن شوهد المحتجون في العراق ينادون بشعارات مناهضة لإيران في وقتٍ متأخرٍ من العام الماضي، وبعد أن بدأ سليماني بمساعدة القوات العراقية على قمع التحرك في محاولةٍ فاشلة للسيطرة على الغضب العام. كما أنّه لطالما جاهر «الحرس الثوري» الإيراني بـ “براعته الاستخباراتية الكاملة” في العراق، لذا قد يُعتبَر إخفاقه في إنقاذ قائدٍ بهذه الأهمية من الاغتيال بمثابة إحراجٍ بين الإيرانيين والعراقيين على حدٍّ سواء.
وبصرف النظر عن ردود الفعل المحلّيّة، لا يمكن أن يستبعد المرء احتمال أن يستغلّ النظام مراسم العزاء كأداةٍ عسكرية تكتيكية في الخارج. فعلى سبيل المثال، ووفقاً لوكالات الأنباء الإيرانية، ستكون مراسم السادس من كانون الثاني/يناير في طهران مسبوقة بمسيرات لتشييع الجثمان في المدينتَين العراقيتَين المقدستَين كربلاء والنجف “تلبيةً لطلب الشعب العراقي”. والأهم من ذلك هو أن شبكة ميليشيا «الحشد الشعبي» في العراق أعلنت وفقاً للتقارير عن مسيرة لتشييع “القائدَين الشهيدَين” ستبدأ في المنطقة الدولية في بغداد، حيث تتواجد السفارة الأمريكية ومنشآت دبلوماسية أجنبية أخرى. ويُحتمل كثيراً أن يؤدي هذا الحدث الأخير إلى تصعيد الاشتباكات التي تشمل القوات الأمريكية والعراقية والقوات الإيرانية الوكيلة.
وبالنسبة إلى خلف سليماني، اختار المرشد الأعلى العميد إسماعيل قاآني قائداً جديداً لـ «فيلق القدس». وفي رسالة تعيينه، أفاد خامنئي أن ولاية «الفيلق» “هي نفسها كما كانت تحت قيادة الشهيد سليماني”. وقد احتل قاآني قبل ترقيته المرتبة الثانية في القيادة بعد سليماني، وكان نائباً سابقاً لرئيس هيئة الأركان المشتركة لاستخبارات «الحرس الثوري» الإيراني، وقائداً مخضرماً في الحرب الإيرانية العراقية.
معهد واشنطن