أدى تصاعد النزاع الأميركي – الإيراني إلى زيادة أسعار نفط برنت، الأسبوع الماضي، إلى نحو 70 دولاراً للبرميل، للمرة الأولى منذ مايو (أيار) 2019، وذلك إثر اغتيال الولايات المتحدة القائد العسكري الإيراني قاسم السليماني في بغداد.
وبناء على القرار غير الملزم لمجلس النواب العراقي بإجلاء القوات الأجنبية من العراق، أعلنت واشنطن، التي تنوي الإبقاء على قواتها في العراق، أنها بصدد دراسة فرض عقوبات اقتصادية على العراق. ولم يتم حتى كتابة هذه السطور الإعلان عن تفاصيل هذه العقوبات، التي لا بد أن تشمل، حال إقرارها، صادرات النفط الخام والصناعة النفطية العراقية، ومن ثم، ردود فعل الأسواق بزيادة الأسعار إلى 70 دولاراً للبرميل، وكان مستواها السابق يتراوح بين 60 و65 دولاراً للبرميل.
سيشكل فرض الحصار على النفط العراقي ضربة موجعة للبلاد، خصوصاً أن ريع الصادرات النفطية يقدر بنحو 90 في المائة من واردات الموازنات السنوية. والعراق لا يزال يعاني من 40 سنة متواصلة من الحروب والحصار الدولي والإرهاب وأسوأ ظواهر الفساد العام والبطالة.
يثير الكلام عن حصار واشنطن أسئلة عدة: ما سبب فرض حصار على دولة لا تعتبر الولايات المتحدة عدوة لها؟ هل أصبحت سياسات الحصار النفطي جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية الأميركية تُفرض على من يختلف مع سياساتها؟ وهل ستستطيع واشنطن الحصول على تأييد الدول الصناعية، (أقطار السوق الأوروبية، الصين وروسيا) لسياسات الحصار، كلما قررت اتخاذ قرارات المقاطعة والحصار بمفردها خارج إطار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؟
من المعروف أن الأحزاب الإسلامية والميليشيات المهيمنة على الحكم ومجلس النواب في بغداد حالياً، رجعت للعراق بمباركة أميركية خلال الأشهر الأولى للاحتلال. والأنكى من ذلك، أن الحاكم الأميركي بول بريمر أصدر قرار حل جميع المؤسسات العسكرية والأمنية لبلد يزيد عدد سكانه على 30 مليون نسمة.
إن الفوضى والفراغ الناتجين عن تفكيك المؤسسة العسكرية العراقية يتحمل مسؤوليتهما الاحتلال الأميركي. فقد نتج عن هذا القرار الفوضى والفراغ اللذان فتحا الباب على مصراعيه للمنظمات الإرهابية للتعشعش في العراق. الأمر الذي أدى إلى تخريب مدن الأنبار واحتلال الموصل وتهديمها على بكرة أبيها عند تحريرها وحصار بغداد. لقد شاركت القوات الأميركية، المؤسسة العسكرية العراقية وقوات الحشد الشعبي والبيشمركة في دحر «داعش» عند معركة الموصل.
سيترك الحصار بصماته على الصادرات النفطية العراقية، ما سيعني انخفاض الصادرات العراقية نحو 3.2 مليون برميل يومياً. كما سيعني الحصار على العراق واشتداد المعارك على أراضيه، انسحاب الشركات النفطية العاملة هناك حالياً. وبالفعل، فقد بدأت بعض الشركات الأميركية العاملة سحب موظفيها الأجانب، مثل «إكسون موبيل» من الجنوب و«شيفرون» من الشمال. الأمر الذي سيؤخر من تطوير طاقة العراق الإنتاجية البالغة حالياً نحو 5 ملايين برميل يومياً (ثاني أكبر دولة منتجة في منظمة «أوبك»).
يتوقع أن ترتبك أسواق النفط العالمية حال فرض حصار نفطي على العراق، نظراً للعقوبات النفطية المفروضة في الوقت نفسه أيضاً على كل من روسيا وفنزويلا وإيران. إن احتمال شمول العراق بعقوبات اقتصادية سيحد جداً من سعة الطاقة الإنتاجية الإضافية المتوفرة لدى أقطار منظمة «أوبك»، ما قد يربك الأسواق ويؤدي إلى زيادة الأسعار مرة أخرى إلى نحو 70 دولاراً للبرميل، خوفاً من أي انقطاعات مفاجئة لأسباب سياسية أو صناعية في ظل انخفاض الطاقة الإنتاجية الإضافية لمنظمة «أوبك».
تحددت أطر الصراع الأميركي – الإيراني حتى الآن بالآتي: تبني واشنطن كخطوة أولى وأساسية سياسة الحصار والمقاطعة للنفط لإنهاك الاقتصاد الإيراني. وهذا ما هو حاصل فعلاً حتى الآن. استمرار محدودية ردود الفعل العسكرية الإيرانية يرافقها ضجيج إعلامي ضخم، مثل قصف الطائرة الأميركية من دون طيار والناقلات العابرة في بحر عمان والخليج العربي وقصف نحو 20 صاروخاً باليستياً على قاعدتين عسكريتين أميركيتين في الأنبار وأربيل، دون أي إصابات بشرية.
وهذا الأمر أصبح معتاداً عليه في الصراع الأميركي – الإيراني، إذ تتجنب إيران خرق قواعد اللعبة كي لا تنجر إلى عواقب وخيمة على أراضيها، كما تتجنب واشنطن بدورها، بعد تجارب حروب أفغانستان والعراق، الانزلاق في حرب واسعة ومفتوحة الأفق على الأراضي الإيرانية. وطبيعة ردود الفعل الأميركية شاهدة على ذلك حتى الآن.
إن المهم لدى الطرفين هو عدم نقل النزاع إلى أراضي أي من الدولتين، وعدم الاعتداء على المواطنين الأميركيين المدنيين منهم أو العسكريين. وهكذا يستمر على ضوئه الصراع في هذه الحال، لكن على الأراضي العربية المنهكة حيث انهيار مجموعة من الدول اقتصادياً وسياسياً الواحدة بعد الأخرى وقتل الآلاف من السكان وتشتت وتهجير الملايين من المواطنين، دون اكتراث واشنطن أو طهران في المآسي التي تلحق بهذه الدول المنكوبة بسبب قواعد النزاع هذه. وبحسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن الضربة الجوية الأميركية للحشد الشعبي (قوات حزب الله العراقي) في سوريا وغرب العراق، كانت رد فعل على مقتل نورس حميد المواطن الأميركي من أصل عراقي، المترجم في شركة «فاليانت» التي توفر عمليات الترجمة في القاعدة العسكرية الأميركية في كركوك التي قصفتها قوات حزب الله في أواخر الشهر الماضي.
من المتوقع في حال استمرار هذه السياسات الاستفزازية من قبل الطرفين دون تصعيدها إلى حروب كبرى، أن تتراجع الأسعار إلى مستواها السابق من 60 إلى 65 دولاراً للبرميل في المستقبل المنظور، حيث يبقى النزاع الأميركي – الإيراني في الأطر الحالية، مناوشات عسكرية هنا وهناك يرافقه تضخيم إعلامي، دون نوايا جدية لتوسيعها إلى حروب مفتوحة طويلة الأمد. وشاهدنا في نهاية الأسبوع الماضي بداية التراجع هذا، حتى بعد قصف إيران الصواريخ الباليستية على القواعد الأميركية في العراق.
أما في حال اختلاف قواعد اللعبة وتصاعد وتنفيذ التهديدات التي تطلق، ثم يتم إما التراجع عنها دبلوماسياً أو عدم تنفيذها، كتصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب بضرب عشرات الأهداف الإيرانية؛ منها الأماكن الأثرية، أو التهديد الإيراني بضرب حيفا، فإن هذه التهديدات والخطابات النارية التي ترافقها تخلق مزيداً من الذعر في أسواق النفط لفترة وجيزة، ثم تتراجع الأسعار إلى مستواها السابق كما هو حاصل فعلاً الآن. وقد تؤدي هذه التهديدات في حال تنفيذها إلى حروب مفتوحة وارتفاع أسعار النفط إلى مستويات عليا.
وليد خدوري
الشرق الاوسط