حصدت حركة “حماس” الفلسطينية لفترة وجيزة الاهتمام من جديد حين تأهّل آية الله باسماعيل هنية، أحد القادة من غزة، خلال جنازة قاسم سليماني في طهران. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، كان يحيى السنوار – رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في غزة – هو من رسّخ مكانته كإحدى أكثر الشخصيات تأثيرًا ونفوذًا في الحركة. وقد حصل هذا التغيّر في القوة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، أي أقل من عقد، حين تحرر السنوار من السجون الإسرائيلية حيث أمضى ربع قرن.
صحيح أن ملف السنوار الشخصي جذاب، لكن تاريخه السياسي هو الذي يوفر نظرة بشأن أبرز التطورات الحديثة التي طرأت سواء داخل “حماس” وفي حياة الفلسطينيين العامة ككل. ويهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذا الجانب من ملفه وتحليل كيف يمكن أن يتبلور في المستقبل القريب، سواء داخل الساحة الفلسطينية أو في العلاقات مع إسرائيل. ومن شأن حلقة ثانية أن تلقي الضوء على الأهمية الأشمل لمسار السنوار والخيارات المطروحة أمام زعيم “حماس”.
هذا ويكتسي فهم تطور القيادة في “حماس” أهمية خاصة إذ تجد الحركة نفسها الآن عند مفترق طرق استراتيجي. فهي الآن تواجه موقفًا صعبًا، على الصعيدين الداخلي والخارجي: حركة احتجاجية شعبية عميقة في غزة وابتعاد عن شريحة كبيرة من الجهات الفاعلة العربية الخارجية. وتنظر قيادة “حماس” الآن في المسارات المحتملة للخروج من هذا المأزق، بما في ذلك احتمال إبرام اتفاق طويل الأمد بشأن “تهدئة” مع إسرائيل يخوّلها تحسين الوضع داخل القطاع.
ويُعتبر السنوار الشخصية الرئيسية في هذا السياق، إذ من المتعارف عليه أن لديه الكلمة الفصل في سياسة غزة. ومن المثير للاهتمام أن السنوار يجمع أيضًا القطبيْن المتناحريْن في “حماس”: فمن جهة، لقد انبثق عن الجناح الفلسطيني المسلّح (“كتائب عز الدين القسام”) وأثبت ولاءً عميقًا للجهاد؛ لكنه يدرك في الوقت نفسه أهمية الحفاظ على استقرار المجتمع المدني بغية التمكّن من فرض سيطرة “حماس” لفترة طويلة.
واليوم، يواجه السنوار الحاجة إلى خوض مسار جديد بين هذين القطبين. لكن الوسائل المختلفة التي لجأ إليها لغاية الآن من أجل انتشال غزة من أزماتها الداخلية العميقة قد باءت فعليًا بالفشل. أولًا، إن الجهود المتقطعة للتصالح مع “السلطة الفلسطينية” بقيادة الفالح في رام الله على شفير الانهيار. ثانيًا، إن المسعى لإحياء الروابط مع “محور المقاومة” الإقليمي الأشمل بقيادة إيران يتهاوى؛ فإيران تحرص على توفير دعمها المحدود حتى إلى جناح “حماس” المسلّح فقط وليس إلى الحركة ككل. ثالثًا، إن استراتيجية “مسيرة العودة” المنطوية على احتجاجات أسبوعية عنيفة وغير الناجحة أيضًا على طول الحدود بين غزة وإسرائيل، على الرغم من الكلفة الإنسانية المرتفعة التي حصدت أرواح أكثر من 350 غزاويًا، لم تحقق الكثير لما يقارب مليوني فلسطيني يعيشون في تلك المنطقة الضيّقة. وبالفعل، تقلّص نطاق هذه الاحتجاجات بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية.
ويُضاف إلى معضلة السنوار، تدهور مكانة “حماس” الاستراتيجية الأشمل في المنطقة خلال الأشهر القليلة الماضية. ويُعزى ذلك جزئيًا إلى ارتباط اسم “حماس” الوثيق بالسياسة الإسلامية، ليس فقط سياسة إيران، بل أيضًا جماعة “الإخوان المسلمين” المدعومة من تركيا. وقد أدّى ذلك إلى ردّ قوي من خصمها السعودية، وحتى أنه تسبب بحملة اعتقال عشرات النشاطين من “حماس” داخل المملكة. ويتمثل انحراف جديد آخر في التلميحات الجديدة بأن قطر قد تخفض مساعدتها الاقتصادية الكبيرة والمهمة للغاية لقطاع غزة، بعد أن كانت لعبت دورًا مهمًا خلال كامل العقد الماضي في الحؤول دون حصول أزمة إنسانية فعلية في القطاع.
وعلى ضوء هذه الخيارات الاستراتيجية المحدودة، فإن السنوار مرغم أكثر من أي وقت مضى على النظر جديًا في احتمال إبرام نوع من “الترتيب” الطويل الأمد مع إسرائيل. فمن جهة، سيهدّد ذلك بكبح خطوات “حماس” العسكرية؛ ومن جهة أخرى، سيعد بتحسين وضع المدنيين في غزة. غير أنه في هذه المرحلة، يبدو أن السنوار يتجنب اتخاذ أي قرار استراتيجي فعلي. ويواصل مقاومته، الأمر الذي يسمح بجرّ التوترات إلى مواجهة مسلّحة واسعة النطاق مع إسرائيل، رغم أنه لا يزال مهتمًا بتبني “هامش مقاومة” إلى حدّ ما، بدعم من الوحدات الإرهابية في غزة التي تبقي على بعض “الاضطراب” العدواني الأساسي في تلك المنطقة. وينعكس هذا البعد الأخير من سياسته بشكل رئيسي في إطلاق صواريخ بشكل متكرر على إسرائيل.
غير أن الردّ على هذه الضغوط يتأرجح ضمن سياسة “حماس” بين التصعيد والتهدئة. فنحن نرى جولات تصعيد، بقيادة فصيل “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” في المقام الأول، إلى جانب مناقشات حول التوصل إلى صفقة ما مع إسرائيل، مع صدور تقارير مفادها أن هذه المناقشات تجري بجدية أكثر من أي وقت مضى. لكن استمرار هذا الواقع المتباين يمكنه مع مرور الوقت أن يؤدي إلى احتدام واسع النطاق غير مقصود وغير مرغوب فيه بين “حماس” وإسرائيل.
وفي أغلب الظن، إن ميل السنوار إلى إبرام صفقة مع إسرائيل يتنامى، رغم أنه ما زال يتعين عليه التوصل بشكل حاسم إلى خلاصة أن هذا المسار هو الأفضل في المستقبل. مع ذلك، وحتى إذا تبلور مثل هذا القرار على أرض الواقع، على المرء ألا ينسى الخطوط الحمراء التي قد تحتفظ بها “حماس” خلال المساعي للتفاوض بشأن اتفاق مماثل. وقد يتصدر لائحة هذه الخطوط الرفض المتواصل لأي اعتراف رسمي بإسرائيل، ولأي تنازلات كبيرة من جهة “حماس” بشأن قوتها العسكرية. فمثل هذه التنازلات قد تشكّل ببساطة تهديدًا وجوديًا للحركة. ويعتبر الكثيرون في الحركة أنه متى حصلت مثل هذه التنازلات، لن تعود “حماس” التي يعرفونها موجودة.
في الموازاة، لا شكّ في أن السنوار نفسه قد وضع نصب عينيه مراكز أعلى في السلطة السياسية في المستقبل. وسيتمثل التقدّم الأكثر قابلية للتحقيق باستلام قيادة المكتب السياسي لـ”حماس” برمته (وليس فقط في غزة)؛ علمًا بأنه يخضع حاليًا لسيطرة إسماعيل هنية، رغم أن المكتب يلعب في الوقت الراهن دورًا رمزيًا عمومًا. وفي المستقبل، سيكون من المنطقي أن يتطلّع السنوار إلى تقوية مكانته في الساحة الوطنية الفلسطينية الأشمل.
ومن شأن وفاة محمود عباس، رئيس “السلطة الفلسطينية” في نهاية المطاف، البالغ من العمر 84 عامًا حاليًا، أن تقدّم هذه الفرصة بالتحديد إلى السنوار. وستكون هذه الفرصة مرجحة على نحو خاص إذا ما أرادت “السلطة الفلسطينية” اتخاذ خطوات صلح عملية مع “حماس”، ما يمنحه موطئ قدم في الضفة الغربية وداخل هيكليات “منظمة التحرير الفلسطينية”. حتى أن هذه الفرصة قد تتبلور أكثر في حال إجراء يومًا ما انتخابات ديمقراطية فعلية على صعيد البرلمان والرئاسة في فلسطين.
وعليه، يمكن أن ينتهي المطاف بيحيى السنوار – الذي ترعرع في شوارع مخيم للاجئين في غزة وأمضى سنوات شبابه بين جدران سجن إسرائيلي ليستحوذ بعد ذلك على قيادة الحركة الإسلامية الفلسطينية – بالتربع على قمة النظام السياسي الشامل لبلاده. لا شكّ في أن السنوار هو شخصية سياسية لا بدّ من مراقبتها، ويمكنه ربما بسط نفوذ كبير على كامل طبيعة هذا النظام وتوجهه في السنوات القادمة.
مايكل نايتس
معهد واشنطن