بعد سنوات من الصراع المدمر والعقوبات الدولية، والاقتصاد السوري يمر بحالة من الفوضى. ومع ذلك، خلافًا لتوقعات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، نجت المصارف السورية إلى حد كبير من تلك العاصفة.
في بحثي الأخير حول الإفصاحات التي قدمتها المصارف الخاصة المدرجة في البورصة أحقق في أسباب هذا الصمود. على الرغم من أنّ البنوك السورية قد تلقت بالفعل ضربة قوية وعانت من الانكماش الاقتصادي والعقوبات الدولية، ومن غياب الاستثمارات العامة والخاصة؛ لكنّ البنوك الستة المملوكة للدولة لم توقف عملياتها المصرفية.
وبالإضافة إلى ذلك، 14 من المصارف الخاصة -فروع للبنوك الإقليمية العربية في لبنان، والأردن، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والكويت، والبحرين- قررت بالبقاء لحين حسم الصراع، وستبقى على الأرجح في البلاد لفترة طويلة. لقد تحمّلت تلك البنوك الدمار المادي لفروعها ومكاتبها في المدن التي تعاني من العنف والسرقة من قِبل عصابات وميليشيات كلا الجانبين المتحاربين، وعمليات تفتيش صارمة على العملات الأجنبية واختلاس من قِبل بعض موظفيها.
فهم هذه المرونة يعيدنا إلى التغييرات الجذرية في القطاع المصرفي في البلاد في العقد الذي سبق ثورة عام 2011. قرار الحكومة بتحرير القطاع المصرفي في عام 2003 بعد تسليم السلطة إلى الرئيس بشار الأسد بعد وفاة والده حافظ الأسد في عام 2000، أنهى من الناحية الفنية احتكار الدولة للنظام المالي الذي يعود تاريخه إلى تأميم المصارف الخاصة في سوريا في ستينيات القرن الماضي. كانت هذه اللحظة الفاصلة للاقتصاد السوري جزءًا من خطة الحكومة للتحرك نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، مع رؤية تبني مبادئ السوق الرأسمالية في نهاية المطاف.
كان هدف بشار هو تجديد العقود الثلاثة من الهيكل الشعبي في “النهوض السلطوي” إلى انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة، وتحويل الأصول العامة في نهاية المطاف إلى شبكة من الرأسماليين المقربين من النظام. التخلي عن السياسات الاشتراكية في عصر ما بعد الشعبوية بلغ ذروته مع إنشاء سوق دمشق للأوراق المالية في عام 2009. وقد ارتفع عدد الشركات المدرجة في البورصة منذ ذلك الحين، حتى بعد عام 2011، وتضم حاليًا 23 شركة تغطي قطاعات مثل وسائل النقل، ووسائل الإعلام، والصناعة، والزراعة، والخدمات المصرفية والتأمين. كما هيمنت المصارف الخاصة المدرجة والعاملة في البلاد على قيمة الصرف وأنشطة التبادل في البورصة.
لم يكن الهدف من إصلاح النظام المالي هو القضاء على وجود البنوك العامة في البلاد. وفي حين أن هناك ستة بنوك مملوكة للدولة، لكنّ المصرف التجاري السوري لا يزال الأكبر في البلاد من حيث الأصول والعمليات والخدمات، ويصل رأس مال البنك إلى 7 مليارات ليرة سورية -أي ما يقرب من 1.55 مليار دولار في قيمة ما قبل الصراع التي وصلت إلى 45 ليرة سورية/ الدولار الأمريكي- وهو بذلك يتجاوز القيمة المجمعة من رأس المال للمصارف الخاصة في سوريا. ويعود ذلك إلى حد كبير إلى مركزية المعاملات والودائع المالية الحكومية في البنك، واحتكار البنك التجاري السوري لميزانية وإيرادات الدولة السورية.
أعاد النظام المصرفي السوري الخاص الذي أنشئ حديثًا توزيع حصة السوق الاحتكارية من المصارف العامة مع المقرضين من القطاع الخاص، مع الحفاظ على درجة من الحماية لتحافظ البنوك المملوكة للدولة على احتكار الخدمات المصرفية. وكان هذا الإجراء جزءًا مما يطلق عليه ريموند هينبوش “الطريق الوسط” الذي يسمح بتوسع القطاع الخاص في حين إصلاح ظاهري للشركات المملوكة للدولة.
جذبت البنوك الخاصة المزدهرة رجال الأعمال من أصحاب النفوذ السياسي، بما في ذلك العديد من السياسيين السابقين وكبار مسؤولي الأمن، والشركاء الطبيعيين للمستثمرين من المؤسسات الأجنبية التي طُلب منها ملكية سورية بنسبة 49% للحصول على رخصة العمل حتى عام 2010. ولاحظ تقرير صدر مؤخرًا عن البنك الدولي ملكية متشابكة الهياكل واستثمارات تشاركية بين شركات صديقة في مصر. ومن خلال استعراض شامل للإفصاحات التي قدمتها المصارف الخاصة المدرجة في سوق دمشق للأوراق المالية تشير إلى وجود اتجاه مماثل، حيث يمتلك بعض من رجال الأعمال السوريين البارزين، وبعضهم تمّت معاقبته بسبب دعمه للنظام السوري، عددًا كبيرًا من الأسهم إلى جانب كونهم أعضاء بمجالس الإدارة في العديد من البنوك. وكما يظهر البحث، هناك ما لا يقل عن 23 من المستثمرين الذين تجاوزت أسهم المليكة الخاصة بهم مليون سهم. ومع أكثر من 36 مليون سهم بشكل إجمالي، فإنّ هؤلاء الأفراد يشكلون 4.5% على الأقل من الأسهم الشاملة للمصارف الخاصة و11% من ملكية الأسهم الكلية للمستثمرين.
هذا هو عرَض من أعراض ظهور جيل جديد من “رجال أعمال النظام”، الذين تحولت علاقتهم مع الدولة من تحالف الأمر الواقع منذ وصول بشار الأسد إلى السلطة إلى العمود الفقري المركزي للنظام الآن. ومن خلال المشاريع التجارية المشتركة والزواج بين أفراد الأسرة، تُرجم هذا التحالف إلى هيمنة رجال أعمال النظام على القطاعات المربحة، بما في ذلك الطاقة، والخدمات المصرفية والمالية، والبناء، والسياحة، وهذا بدوره ضمن البقاء الاقتصادي للنظام السوري.
في جهودهم الرامية إلى عزل النظام السوري، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على عشرات من المسؤولين الأمنيين والسياسيين، ورجال الأعمال، وبعض منهم من حملة الأسهم وأعضاء مجلس الإدارة لهذه المصارف الخاصة. وكان الهدف من هذه العقوبات هو قطع العلاقات الوثيقة بين الأعمال التجارية والسياسة في البلاد. ومع ذلك، فشلت هذه السياسة الى حد كبير. معظم رجال الأعمال لديهم استثمارات كبيرة داخل البلاد تفوق أصولهم ومصالحهم التجارية في الخارج. كما أدت علاقتهم الوثيقة مع النخبة السياسية الحاكمة إلى الإسهام بشكل كبير في بقاء نظام الأسد.
أكثر من أربع سنوات من العقوبات الصرامة لم تؤدِ إلى تخلي كتلة حرجة من رجال الأعمال عن النظام السوري. وفي حين أنّ البعض قرر تصفية من هذه البنوك، لكنّ البعض الآخر زادوا استثماراتهم على الرغم من المخاطر التشغيلية والأمنية والمخاطر المتعلقة بسمعة البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، الاستثمارات الكبيرة التي قاموا بها، والحاجة إلى خطة إعادة إعمار للبلاد بتمويل خاص وعالمي بعد انتهاء الصراع ستتجاوز توقعات الخروج من البلاد. ومن المفارقات أن إعادة بناء سوريا في المستقبل قد تكمن بين أيدي هؤلاء المستثمرين؛ إلا إذا قررت الحكومة الجديدة مصادرة أصول رجال الأعمال وتوجيه ضربة قوية لهذا القطاع.
التقرير