حبر كثير سوف يسيل قبل أن تتضح معالم وآفاق “الاتفاق النووي” الذي تم توقيعه بين إيران ومجموعة دول “خمسة زائد واحد” (الولايات المتحدة وفرنسا وانجلترا وروسيا والصين + ألمانيا)، وانعكاساته على خارطة المنطقة، بعد مفاوضات طويلة وشاقة ومعقدة، دامت نحو عشر سنوات، في عملية شد حبال وجولات متقطّعة، تخللتها مناورات وإخفاقات وحبس أنفاس. وقد سبق ورافقت عملية التفاوض عقوبات اقتصادية وتجارية ومصرفية قاسية، فرضتها الدول الغربية ومجلس الأمن على نظام الملالي، لإجباره على وقف برنامج التسلح النووي.
طوال هذه الفترة، عاشت المنطقة تطورات وتقلبات عديدة ومهمة، شهدت غرق الولايات المتحدة في أوحال العراق، بعد اجتياحه عام 2003، واضطرارها (أو تواطئها؟) لتشريع النفوذ والوجود الإيراني فيه، وفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة مذهبية سنية-شيعية، وانتشار عدواها على مدى المنطقة. فيما راحت طهران، بالتوازي، تتمدد وتبسط نفوذها، بحنكة حائكي السجاد وصبرهم، لتصل إلى ضفاف المتوسط، وليس من يحاول من العرب وضع حد لهذا التغلغل الأخطبوطي. وهذا ما سمح لأحد قياديي الحرس الثوري الإيراني، أخيراً، بالتباهي بأن بلاده باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، على الرغم من أن أول جرس إنذار دق في صيف 2009 بانفجار “الثورة الخضراء”، في وجه تزوير الانتخابات، من أجل فرض إعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيساً. وقد قمع الحرس الثوري الانتفاضة بالقوة، واستعاد السيطرة على الشارع، غير آبه بحالة الاحتقان لدى الإيرانيين جراء القمع والاستبداد والضيق الاقتصادي، الناتج عن العقوبات الدولية.
طوال هذه الفترة، عاشت المنطقة تطورات وتقلبات عديدة ومهمة، شهدت غرق الولايات المتحدة في أوحال العراق، بعد اجتياحه عام 2003، واضطرارها (أو تواطئها؟) لتشريع النفوذ والوجود الإيراني فيه، وفتح الباب على مصراعيه أمام مواجهة مذهبية سنية-شيعية، وانتشار عدواها على مدى المنطقة. فيما راحت طهران، بالتوازي، تتمدد وتبسط نفوذها، بحنكة حائكي السجاد وصبرهم، لتصل إلى ضفاف المتوسط، وليس من يحاول من العرب وضع حد لهذا التغلغل الأخطبوطي. وهذا ما سمح لأحد قياديي الحرس الثوري الإيراني، أخيراً، بالتباهي بأن بلاده باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، على الرغم من أن أول جرس إنذار دق في صيف 2009 بانفجار “الثورة الخضراء”، في وجه تزوير الانتخابات، من أجل فرض إعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيساً. وقد قمع الحرس الثوري الانتفاضة بالقوة، واستعاد السيطرة على الشارع، غير آبه بحالة الاحتقان لدى الإيرانيين جراء القمع والاستبداد والضيق الاقتصادي، الناتج عن العقوبات الدولية.
حاولت طهران تبنّي الانتفاضات الشعبية التي هزت المستنقع العربي وفاجأت العالم، بدءاً من نهاية عام 2010، ضد أنظمة القمع والاستبداد والاستغلال، من أجل إيهام نفسها والآخرين بأنها “المُصدّر” لهذه الثورات، عملاً بمبدأ الخميني ونظام ولاية الفقيه، إلا أن هذه الثورات لم تكن لا “إسلامية” ولا “ضد إسرائيل”، العنوانين التعبويين اللذين تستخدمهما عادة قيادة الملالي لتضليل الرأي العام وتسويق سياستها. وقد عمّت تلك الانتفاضات، الواحدة تلو الأخرى، تونس ومصر وليبيا واليمن، وامتدت إلى النظام الأسدي، أعتى أنظمة القهر العربية و”حصان طروادة” طهران الذي مكّن النظام التيوقراطي الإيراني من التسلل إلى المشرق العربي.
وهكذا، بدأ العد العكسي لبداية غرق طهران في أوحال ما تصورته المدى الأوسع لإمبراطوريتها. فأرسلت، أولاً، ذراعها الضارب، حزب الله، إلى سورية لنجدة بشار الأسد، تبعه مليشيات شيعية عراقية شكلت خصيصا للدفاع عن النظام السوري. ثم اضطرت إلى التدخل مباشرة عبر إرسال كوادر وقياديين ومقاتلين من الحرس الثوري، إلى أن غرق الجميع في المستنقع السوري، بين داعش التي تمددت من سورية إلى العراق، وجبهة النصرة والجيش الحر، وتنظيمات إسلامية أخرى، إلى درجة يبدو معها أنه لم يعد مجديا لها حتى المساومة على الأسد المنهار.
وفي العراق، راح قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، يصول ويجول، ويحاول قيادة معارك “تحرير” من الفلوجة إلى الأنبار، مرة على رأس تشكيلات محلية مدعومة من الجيش العراقي، وطورا على رأس مليشيات شيعية (الحشد الشعبي) لتحرير مناطق سنية من سيطرة داعش. وفي كل مرة كان ينسحب خائباً، إذ باتت داعش التي ولدت برعاية النظام السوري، وتضم كوادر سابقة من حزب البعث العراقي وإسلاميين ومعتقلين سابقين لدى القوات الأميركية في العراق، باتت تسيطر على رقعة جغرافية واسعة، تشمل جزءاً كبيراً من شمال العراق وشمال سورية.
ولم تنس طهران أن تمدّ في طريقها أخطبوطها إلى البحرين، وتسعى إلى فرض نفوذها على اليمن، بدعم الحوثيين وتسليحهم، في محاولة لتحويل الانتفاضة إلى صراع مذهبي، وإثارة المشكلات على الحدود مع السعودية التي قررت، أخيراً، أن تتحمل مسؤولياتها، وتبادر إلى مواجهة المد الإيراني (الشيعي). وكانت النتيجة أن غرقت طهران في المستنقع الذي كانت تحلم أنه فضاؤها الإقليمي، ووجدت أمامها وحش “الدولة الإسلامية” الذي حاولت توظيفه في وجه الانتفاضات العربية، وبات يسيطر على مساحات واسعة من الدولتين الأكثر استراتيجية بالنسبة لمشروع إيران التوسعي. وذلك كله فيما الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية تشتد على رقاب الإيرانيين الذين راحوا يقفون طوابير أمام محطات الوقود، وأحياناً، حتى على أفران الخبز. هل الهدف كان تركها تكتوي بنار حروب الاستنزاف المذهبية المتنقلة على أكثر من جبهة، طوال السنوات الخمس الأخيرة، ما يضطرها إلى القبول بشروط الغرب؟
ماذا تضمن الاتفاق؟ قدمت إيران تنازلات نووية جوهرية، تبدأ بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 98%، وإقفال مفاعل فوردو وتحويله إلى مركز أبحاث مدنية، فيما ستتولى الصين الإشراف على تفكيك مفاعل أراك، وتشتري روسيا اليورانيوم المخصب والمياه الثقيلة. فقط مفاعل ناتانز سيبقى يعمل بواسطة 5060 آلة طرد مركزي فقط بدلاً من 19 ألفا، وتبقى المواقع العسكرية المشتبه بها خاضعة للتفتيش، متى شاءت وكالة الطاقة الذرية. وبالتالي، لن يتم رفع العقوبات قبل بداية عام 2016 بعد التحقق من أن طهران التزمت بشروط الاتفاق. لذلك، يحق لمجموعة “الخمسة زائد واحد” إعادة العقوبات، في مهلة ثلاثة أسابيع، إذا ثبت لها أن طهران تخالف بنود الاتفاق. ناهيك عن بقاء الحظر قائماً على الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية.
في المقابل، على ماذا حصلت؟ استرجاع مليارات الدولارات من أموالها المجمدة في المصارف الأوروبية والأميركية، وهذه مسألة أساسية وحيوية لاقتصادها ولشعبها ولتقدمها وازدهارها. صحيح أن إيران ستصبح قوة نووية سلمية، لكنها بلا شك تخلت عملياً عن برنامج التسلح النووي، وعن التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة، وهذا يتناقض مع أحلام المشروع الأيديولوجي الشمولي للدولة الخمينية الدينية. ولن يكون في وسعها متابعة سياسة “تصدير الثورة”، كما حاولت أن تفعل في سورية والعراق ولبنان، وإشعال فتائل الحرائق المذهبية على امتداد الشرق الأوسط.
هكذا، بين الاستمرار في السعي وراء التسلح النووي ومنع الاختناق الاقتصادي، لم يكن أمام آيات الله إلا القبول بالاتفاق، وإنقاذ اقتصاد بلدهم، بغض النظر عن الشعارات المكابرة التي يطلقها مرشد الثورة علي خامنئي. فرضت الواقعية السياسية على إيران مقايضة اقتصادها بمصالح الغرب التجارية، وسترتكب خطأً جسيماً إذا سمحت للجناح العسكري “الثورجي” بأن يعيد توظيف الأموال المستعادة في مغامرات “تصدير الثورة” مجدداً، لأن الشعب عندها لن يرحم.
وهكذا، بدأ العد العكسي لبداية غرق طهران في أوحال ما تصورته المدى الأوسع لإمبراطوريتها. فأرسلت، أولاً، ذراعها الضارب، حزب الله، إلى سورية لنجدة بشار الأسد، تبعه مليشيات شيعية عراقية شكلت خصيصا للدفاع عن النظام السوري. ثم اضطرت إلى التدخل مباشرة عبر إرسال كوادر وقياديين ومقاتلين من الحرس الثوري، إلى أن غرق الجميع في المستنقع السوري، بين داعش التي تمددت من سورية إلى العراق، وجبهة النصرة والجيش الحر، وتنظيمات إسلامية أخرى، إلى درجة يبدو معها أنه لم يعد مجديا لها حتى المساومة على الأسد المنهار.
وفي العراق، راح قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، يصول ويجول، ويحاول قيادة معارك “تحرير” من الفلوجة إلى الأنبار، مرة على رأس تشكيلات محلية مدعومة من الجيش العراقي، وطورا على رأس مليشيات شيعية (الحشد الشعبي) لتحرير مناطق سنية من سيطرة داعش. وفي كل مرة كان ينسحب خائباً، إذ باتت داعش التي ولدت برعاية النظام السوري، وتضم كوادر سابقة من حزب البعث العراقي وإسلاميين ومعتقلين سابقين لدى القوات الأميركية في العراق، باتت تسيطر على رقعة جغرافية واسعة، تشمل جزءاً كبيراً من شمال العراق وشمال سورية.
ولم تنس طهران أن تمدّ في طريقها أخطبوطها إلى البحرين، وتسعى إلى فرض نفوذها على اليمن، بدعم الحوثيين وتسليحهم، في محاولة لتحويل الانتفاضة إلى صراع مذهبي، وإثارة المشكلات على الحدود مع السعودية التي قررت، أخيراً، أن تتحمل مسؤولياتها، وتبادر إلى مواجهة المد الإيراني (الشيعي). وكانت النتيجة أن غرقت طهران في المستنقع الذي كانت تحلم أنه فضاؤها الإقليمي، ووجدت أمامها وحش “الدولة الإسلامية” الذي حاولت توظيفه في وجه الانتفاضات العربية، وبات يسيطر على مساحات واسعة من الدولتين الأكثر استراتيجية بالنسبة لمشروع إيران التوسعي. وذلك كله فيما الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية تشتد على رقاب الإيرانيين الذين راحوا يقفون طوابير أمام محطات الوقود، وأحياناً، حتى على أفران الخبز. هل الهدف كان تركها تكتوي بنار حروب الاستنزاف المذهبية المتنقلة على أكثر من جبهة، طوال السنوات الخمس الأخيرة، ما يضطرها إلى القبول بشروط الغرب؟
ماذا تضمن الاتفاق؟ قدمت إيران تنازلات نووية جوهرية، تبدأ بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 98%، وإقفال مفاعل فوردو وتحويله إلى مركز أبحاث مدنية، فيما ستتولى الصين الإشراف على تفكيك مفاعل أراك، وتشتري روسيا اليورانيوم المخصب والمياه الثقيلة. فقط مفاعل ناتانز سيبقى يعمل بواسطة 5060 آلة طرد مركزي فقط بدلاً من 19 ألفا، وتبقى المواقع العسكرية المشتبه بها خاضعة للتفتيش، متى شاءت وكالة الطاقة الذرية. وبالتالي، لن يتم رفع العقوبات قبل بداية عام 2016 بعد التحقق من أن طهران التزمت بشروط الاتفاق. لذلك، يحق لمجموعة “الخمسة زائد واحد” إعادة العقوبات، في مهلة ثلاثة أسابيع، إذا ثبت لها أن طهران تخالف بنود الاتفاق. ناهيك عن بقاء الحظر قائماً على الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية.
في المقابل، على ماذا حصلت؟ استرجاع مليارات الدولارات من أموالها المجمدة في المصارف الأوروبية والأميركية، وهذه مسألة أساسية وحيوية لاقتصادها ولشعبها ولتقدمها وازدهارها. صحيح أن إيران ستصبح قوة نووية سلمية، لكنها بلا شك تخلت عملياً عن برنامج التسلح النووي، وعن التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة، وهذا يتناقض مع أحلام المشروع الأيديولوجي الشمولي للدولة الخمينية الدينية. ولن يكون في وسعها متابعة سياسة “تصدير الثورة”، كما حاولت أن تفعل في سورية والعراق ولبنان، وإشعال فتائل الحرائق المذهبية على امتداد الشرق الأوسط.
هكذا، بين الاستمرار في السعي وراء التسلح النووي ومنع الاختناق الاقتصادي، لم يكن أمام آيات الله إلا القبول بالاتفاق، وإنقاذ اقتصاد بلدهم، بغض النظر عن الشعارات المكابرة التي يطلقها مرشد الثورة علي خامنئي. فرضت الواقعية السياسية على إيران مقايضة اقتصادها بمصالح الغرب التجارية، وسترتكب خطأً جسيماً إذا سمحت للجناح العسكري “الثورجي” بأن يعيد توظيف الأموال المستعادة في مغامرات “تصدير الثورة” مجدداً، لأن الشعب عندها لن يرحم.
سعد كيوان
صحيفة العربي الجديد