لقد تغير العالم الذي كنا نعرفه بفضل الأثر المعنوي والنفسي والصحي لفيروس كورونا. ففي أسوأ الاحلام لم يتوقع احد أن تغلق الكويت مطارها الوحيد الدولي لثلاثين يوما قابلة للتمديد، أو أن تغلق كل التجمعات والمدارس والجامعات وأن يجري التفكير بفرض منع التجول، بل أن تسعى بأحسن ما عندها لإدارة أزمة ذكرتها ببعض أسوأ الازمات في تاريخها. وهل تخيل احد أن تقوم الولايات المتحدة مثلا بغلق الباب أمام الطيران من اوروبا إلى الولايات المتحدة؟ أو أن تقوم الولايات المتحدة بإعلان حالة الطوارئ، بينما تفكر الآن بالتحول نحو حالة منع تجول لفرض حجز صحي في العاصمة الأمريكية. ومن توقع أن تقوم ايطاليا والصين بفرض الحجر الصحي وكأنها في حرب عالمية؟
بسبب الفيروس لم يعد الفرد قادرا على أن يجلس مع معارفه، أو مع زملائه وزميلاته في العمل أو حتى الإلتقاء بعائلته الممتدة او الذهاب للمسرح أو مشاهدة لعبة كرة القدم في الملعب. وان فعل هذا عرض نفسه وعرض آخرين لخطر إنتقال فيروس شديد الهجومية والعدائية. هذه العدوى تتنقل كالرشح والإنفلونزا العادية لكنها تنتقل عبر ملامسة الأبواب وآلات السحب الآلي والأسطح بحكم قدرتها على العيش لأيام على الأسطح والأرضيات. في هذا خطورتها: فهي تنتشر بسرعة، لكنها تعيش على الاسطح والأبواب والامكنة لأيام بانتظار مزيد من الانتشار.
وتسعى الدول في العالم لتفادي حالة كتلك التي وقعت في إيطاليا و في الصين في البداية وذلك بهدف محاصرة الوباء ومنعه من إغراق المستشفيات بحالة عجز من جراء عدد المصابين بالفيروس. ففي إيطاليا اضطر الأطباء في حالات كثيرة لأخذ قرار بانقاذ حياة شخص من كل عدة أشخاص، وذلك بسبب العجز أمام تدافع وتدفق المرضى. بل تسعى عدد من الدول لتفادي أخطاء الاستهتار والتعامل السطحي مع الحدث على أساس انه عابر. لقد اضاعت دول عدة فرص التعامل المبكر، لكنها لحقت الركب عندما اكتشفت مدى عمق المشكلة.
تؤكد الحرب مع الفيروس بأن السعي لبناء البنية الصحية والطبية كما وبناء كل ما يمت بصلة للبحث العلمي والمعرفة والتعامل مع البيئة وحاجات الإنسان في العدالة والحقوق يجب ان يكون الهدف الأساسي للدول والمجتمعات
لقد نجحت ايطاليا الآن في التخفيف من انتشار الوباء الذي بدأ يتجه لحاله من الاحتواء. وبينما تمضى الان الولايات المتحدة نحو حالة احتواء للمرض، من المتوقع أن يستمر الوضع الراهن لما يقل عن أسبوعين إلى اربعة أسابيع قبل تسطيح الوباء نسبيا ووضعه ضمن معادلة يمكن التحكم بها. هذا صراع قائم الآن في عشرات الدول. ومع ذلك اكد الرئيس الأمريكي وفريقه ان المعركة مع الفيروس مستمرة لشهر تموز/يوليو وربما لشهر آب/أغسطس.
وفي بريطانيا كانت الفرضية الاولى تقوم على مبدأ أن إنتشار المرض وسيلة لبناء مناعة لدى الناس، اذ اعلن جونسون رئيس الوزراء بأن البريطانيين سيخسرون من اقربائهم كبار السن. لكن الواضح أن بريطانيا غيرت سياساتها وبدأت في إجراءات صارمة نسبيا، لكنها لم تغلق المدارس والجامعات للآن. إن التكتيك الراهن الذي بدأته الصين ثم لحقته ايطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة ودول اخرى هدفه كسب الوقت، كما ذكرت سابقا، وذلك لحماية القدرات الطبية من الانهيار ولحماية الأرواح من الوباء، لكن بنفس الوقت يؤدي كسب الوقت لخلق الفرصة لتطوير تطعيم يسمح بحماية الناس من الفيروس.
وعلينا أن نلحظ بأن هناك دولا في العالم لا تملك القدرة ولا الإدارة ولا المؤسسات الفاعلية لمواجهة المرض، ولا تملك هذه الدول التقاليد العلمية على مواجهة تحديات كهذه. في هذه الدول قد يكون احتواء المرض أكثر صعوبة. فلا يوجد وضوح مثلا عن حالة المرض في مصر ومدى انتشاره، ولا توجد شفافية، بل هناك إجماع خارج مصر وبين الكثير من الهيئات العلمية العالمية على أن المرض منتشر في القاهرة ومصر وان الكثير من الطائرات حملته معها لدول شتى في العالم. وقد لا تتوفر إحصاءات مناسبة في عدد من الدول العربية المشرقية وفي شمال أفريقيا، لكن الواضح أيضا ان إيران مصدر رئيسي للوباء، وهي للآن لم تستطع السيطرة عليه.
وبسبب كورونا لم نعد نسمع بالاشتباكات في هذه الحدود او تلك كما كنا قبل بضعة شهور، فمنذ أيام وقع قصف على موقع أمريكي في العراق، وجاء بالطبع رد أمريكي أيضا، لكن الحدث بدا وكأنه خارج السياق. لقد فقد العالم الاهتمام بالإرهاب والحروب وها هو يفكر بالفيروس ومدى انتشاره والدمار الذي سيلحق بالاقتصاد والحياة في حالة تمكنه من المجتمعات.
وتؤكد الحرب مع الفيروس بأن السعي لبناء البنية الصحية والطبية كما وبناء كل ما يمت بصلة للبحث العلمي والمعرفة والتعامل مع البيئة وحاجات الإنسان في العدالة والحقوق يجب ان يكون الهدف الأساسي للدول والمجتمعات. حتى الآن تبدو الحضارة العالمية التي بنت جيوش وقدرات نووية قادرة على تدمير العالم عشرات المرات مصدومة أمام قدرة فيروس صغير لا تراه العين المجردة على ايقافها وإيقاعها. أزمة الفيروس تتطلب اعادة نظر وتفكير عميق بالأسس الدافعة لحضارة الحروب والاستقواء.
القدس العربي