علاقة واشنطن ببغداد على محك حملة الضغط على الميليشيات

علاقة واشنطن ببغداد على محك حملة الضغط على الميليشيات

تخاطر واشنطن بأن ترتد عليها استراتيجية احتواء إيران في العراق بضغطها على الحكومة العراقية والتهديد المستمر بالعقوبات لدفع الحكومة إلى الانخراط الواضح والمباشر في مواجهة إيران واحتواء الميليشيات الموالية لطهران، خاصة في ظل التحديات الراهنة والوضع الاقتصادي الذي يزداد تعقيدا مع أزمة فايروس كوفيد-19 وتراجع أسعار النفط.

واشنطن- يدور جدل في أوساط صناعة القرار الأميركي حول المخاطرة بالتصعيد ضد الميليشيات العراقية المدعومة من إيران وسط حالة الاضطراب التي تسود البلاد بسبب الأزمة السياسية المتواصلة وتعقيدات أزمة فايروس كورونا المستجدّ، بما قد يؤدي إلى نتائج عكسية للعراق والولايات المتحدة، ويصب في صالح إيران والميليشيات، وحتى التنظيمات الإرهابية.

إثر الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد، وعد ترامب بمعاقبة إيران على أفعالها. وكان قد سبق الهجوم أسبوع من العنف، هاجمت فيه الميليشيا التابعة لإيران قاعدة عسكرية عراقية، مما أسفر عن مقتل مقاول مدني أميركي وإصابة عدة جنود أميركيين. وردا على ذلك، قامت الولايات المتحدة بثلاث غارات جوية على نفس الميليشيات العراقية.

ووضعت هذه العمليات الحكومة العراقية في مأزق فهي حليفة الطرفين، بينما يتوقع مراقبون أن يشهد العراق عمليات تصعيد مشابهة، ما يضع الإدارة الأميركية أمام معضلة، فمن جهة تحتاج إلى رد على الهجمات التي تستهدف قواتها، ومن جهة أخرى هناك خشية من أن يؤدي التصعيد إلى فوضى جديدة في البلاد.

وهذا السيناريو الأخير قد يفرض مراجعة قرار سحب القوات الأميركية والدولية، والذي بدأ فعلا، حيث شرعت القوات الأميركية والتحالف الدولي منذ الشهر الماضي في تسليم قواعد بالقائم والقيارة ونينوى وكي وان (K1) في كركوك للقوات العراقية.

كشفت عن هذا الجدل وثائق مسربة من البنتاغون أوضحت تفاصيل لقاء جمع في أواخر شهر مارس الماضي قادة في الجيش الأميركي. كشفت التفاصيل ما أعلن عن الحيرة بشأن الموقف من الميليشيات التي كثّفت هجماتها على أهداف قريبة من مواقع تمركز الولايات المتحدة وحلفائها في البلاد.

تبين الوثائق، وفق مركز ستراتفور الأميركي للدراسات الأمنية والاستراتيجية، أن هناك دفعا نحو تحميل حكومة بغداد، التي تكافح منذ فترة طويلة من أجل تحقيق التوازن في علاقاتها مع واشنطن وطهران، ودورا أكبر في هذه المواجهة، خاصة بعد أن منحت الولايات المتحدة العراق استثناءات تشمل التنازل عن بعض العقوبات بشرط أن تتخذ بغداد إجراءات لتقليص اعتمادها على إيران.

ويربط مراقبون بين هذا الموقف وإعلان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن “حوار استراتيجي” سيجمع في يونيو المقبل بين واشنطن وبغداد لاتخاذ قرار حول مستقبل وجود القوات الأميركية في العراق الذي يرفضه البرلمان العراقي.

وقال بومبيو إنها “ستكون أول مراجعة لكافة المواضيع المتعلقة بالعلاقات الأميركية العراقية بما في ذلك مستقبل القوات الأميركية” في البلاد، لافتا إلى أنه “مع وباء كوفيد-19 المتفشي في العالم وإيرادات النفط التي تتراجع وتهدد الاقتصاد العراقي بالانهيار، من الأهمية بمكان أن تتعاون حكومتانا لكي لا تذهب الانتصارات على تنظيم الدولة الإسلامية والجهود المبذولة لاستقرار البلاد سدى”.

لكن، لا يتوقع مراقبون أن يحقق هذا الحوار، إن تمّ، أي تقدم يذكر طالما بقي القرار العراقي مرتهنا لإيران وظلت الميليشيات تشكل رقما صعبا في المعادلة العراقية الراهنة، خاصة وأن الأطراف الموالية لإيران تعمل على تجييش الشارع ضد الوجود الأميركي.

وقد صوت البرلمان العراقي رسميا للمطالبة بسحب القوات الأميركية الموجودة في البلاد. وزاد هذا التصويت من توتر العلاقات بين بغداد وواشنطن، ما يعقد مساعي الأخيرة لاحتواء إيران والقضاء على نفوذها في العراق. وتعتبر واشنطن هذا الهدف مفتاحا لضمان الاستقرار العراقي في ظل حكومة صديقة للولايات المتحدة.

لكن تلفت إميلي هوثورن، محللة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى مركز ستراتفور، إلى أنه بتشديد الضغوط على بغداد في ظل هذه الظروف، تخاطر الولايات المتحدة بالقضاء على علاقاتها المتبقية مع أطراف في الحكومة العراقية، ما يعني أن استراتجية مواجهة إيران في العراق قد ترتد عليها.

فرغم الاحتجاجات الشعبية الرافضة للطبقة الحاكمة وللميليشيات العراقية الموالية لإيران، تتمتع هذه الميليشيات بنفوذ، وأصبحت مكونا أساسيا من قوات الأمن والحكومة في بغداد. ويعني هذا، وفق هوثرون، أن الحكومة في بغداد هي التي تتحمّل تكلفة سياسية في كل مرة تهاجم فيها الولايات المتحدة مجموعة تدعمها طهران.

في الوقت الراهن تعجز الحكومة العراقية عن السيطرة على الميليشيات التي ستواصل القتال من أجل بقائها وتحقيق أهداف إيران الإقليمية. وإذا كثفت الولايات المتحدة حملة القصف ضد كتائب حزب الله أو غيرها من الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، فقد تخاطر بتأجيج غضب العراقيين الذين سئموا فكرة تحولهم إلى ورقة في المعركة بين الولايات المتحدة وإيران.

ويمكن أن تؤدي محاولات كبح جماح الميليشيات القوية في العراق إلى زيادة تعقيد قدرة رئيس الوزراء العراقي المكلف عدنان الزرفي على تشكيل حكومة عن طريق تأجيج الأحزاب الموالية لإيران لتتحرك ضده وتعرقل جهوده.

وبالتالي فإنه وفق هوثرون، تعدّ استجابة الحكومة العراقية التي أصدرت بيانات دفاعية ردا على قصف الولايات المتحدة للميليشيات واستمرارها في التهديد بالعقوبات “منطقية”. في غضون ذلك، تعيد واشنطن تغيير مواقع قواتها العسكرية في البلاد لخفض أعدادها في النهاية، مما أثار ردود فعل متباينة في العراق الذي بقيت حكومته غير مستقرة منذ استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي في أكتوبر 2019.

ويحتفل المقربون من إيران بهذا الوضع، بينما يخشى المقربون من واشنطن من الفرص التي يمكن أن يوفرها الغياب الأميركي لتنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الإرهابية الأخرى، خاصة في ظل وضع الاقتصاد العراقي الهش الذي يواجه أزمة كورونا وتراجع أسعار النفط.

لسنوات، كانت الولايات المتحدة تضغط على العراق لإبعاده عن إمدادات الطاقة الإيرانية. لكن، زادت واشنطن هذا الضغط بتقصير فترة الإعفاء من العقوبات الأخيرة إلى 30 يوما قبل أن تبدأ في فرض عقوبات على واردات العراق من الغاز الطبيعي الإيراني. (قرّرت الولايات المتحدة السماح للعراق بمواصلة استيراد الغاز والكهرباء من إيران في فبراير. لكن مدة الإعفاء تقلّصت من 120 يوما، إلى 45، والآن إلى 30 يوما).

ويعدّ هذا القرار محاولة لإجبار العراق على إظهار تقدم في هدفه المعلن المتمثل في استبدال جميع صادراته الإيرانية. ويذكر أن استهلاك العراق من واردات الغاز الإيراني زاد من 24 إلى 31 في المئة بين 2018 و2019.

ومع ذلك، سيتطلب خفض هذا الاستهلاك استثمارات دولية ضخمة. والآن، ستجعل الصدمات الاقتصادية المزدوجة لوباء كوفيد-19 وانخفاض أسعار النفط الذي حفّزه الانهيار الأخير لتعاون أوبك، استكمال هذا الإصلاح الاقتصادي في هذه الفترة الزمنية القصيرة مهمة شبه مستحيلة لبغداد.

وعلى الرغم من تصدير نفس الكمية من النفط تقريبا، حقق العراق عائدات أقل بنحو ملياري دولار على شحناته النفطية في مارس الماضي مقارنة بشهر فبراير، مما يؤكد تقلص الطلب العالمي. وتزيد هذه العوامل من الضغط على احتياطيات العراق المالية.

وتقول هوثورن إنه مع عدم بروز نهاية واضحة للوباء، تتكدس آثاره الاقتصادية. وتهدد الأزمة الصحية والاقتصادية العالمية المستمرة قدرة الحكومة العراقية على الحفاظ على توازن ميزانيتها وتوفير الخدمات الحكومية الأساسية، مما يعيق قدرتها على فرض تغييرات هيكلية عميقة على قطاع الطاقة والكهرباء والخدمات بصفة عامة، ويرفع مجددا من منسوب الاحتجاجات الشعبية.

مع بقاء المزيد من الناس في منازلهم خوفا من الإصابة بالعدوى، خرج عدد أقل من العراقيين إلى الشوارع في الأسابيع الأخيرة للتعبير عن غضبهم. لكن، بعد أن تبدأ الأزمة الصحية في التراجع، ومع اقتراب الصيف وتسجيل نقص في المياه وانقطاع الكهرباء مرة أخرى ستعود المظاهرات.

ويخلص تقرير مركز ستراتفور إلى أن اختيار تصعيد الضغط في وقت يتصارع فيه العراق بالفعل مع هذه المخاطر الاقتصادية والسياسية الشديدة يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية على الولايات المتحدة من خلال تحويل بغداد إلى طرف أقل تحالفا في الحرب الأميركية لاحتواء النفوذ الإيراني، وإلى حليف أقل امتثالا في المعركة العالمية المستمرة ضد الإرهاب، والتي يبقى العراق ساحة مهمة لها.

العرب