كتب الإخواني الكويتي عبدالله النفيسي، ضمن زاويته “استراحة الخميس” في صحيفة “الهدف” الأسبوعية الكويتية، بتاريخ 14 يونيو 1979، تحت عنوان “أثخن فيهم يا خميني.. بوركت يداك” تأييدا للإعدامات التي نفذها نظام الخميني في إيران، وحينها تولى المحكمة الثورية صديقه محمد صادق خلخالي، الذي توفي 2003 بعد إصابته بمرض الزهايمر، وقبل أن يفقد الذاكرة كتب خلخالي مذكراته تحت عنوان “أيام العزلة”، ففي أواخر حياته عُزل من قِبل المقربين له، ومن النظام نفسه، بعد أن نفذ ما عليه، من وقائع دموية، فالإعدامات كانت على أشدها في بداية انتصار الثَّورة الإسلامية.
لسنا معنيين بحياة وتقلبات وادعاءات عبدالله النفيسي، بقدر ما نركز على مقالته هذه، ليس تكشفا عن دموية الإسلاميين، وكل قتل يفسرونه حقَّا من حقّوق الله، فقد اعتبر الإعدامات التي جرت من قبل النظام الإسلامي الثوري بإيران، وطال المئات مِن النِّظام السابق، ومن غيرهم، أنه واجب ديني، منصوص عليه في القرآن، ويستشهد بقضية العرنيين، الذين قتلهم النبي محمد، كونهم أفسدوا في الأرض، هكذا يسقط النفيسي حوادث الماضي على الحاضر، دون أن يعتبر الاغتيالات التي قام بها الإسلاميون بمصر وغيرها فسادا في الأرض.
حشد النفيسي في مقاله، الذي نُشر في أوج الفوضى والإعدامات في إيران، العشرات من الآيات القرآنية، كي يدلل على شرعية القتل، ولم يفقه أنه يعارض فسادا بفساد. لم يكن النفيسي عام 1979 خارجا من سرب الإخوان في تأييد النظام الديني بإيران، وكانوا ينظرون إلى تلك الثَّورة بأنها فاتحة عصر جديد لهم. فالدول، حسب منطقهم، ستتساقط تحت ظلال سيوفهم. ارتكب النفيسي في مقاله هذا، ولا أظن أن الرَّجل قد راجع نفسه وعاد إلى صوابه وإن كان يتحدث عن إيران حاليا بشكل آخر، خطيئة التحريض على القتل، ليس بإيران، وإنما أعطى الشرعية لكلِّ إسلامي أن يقوم بمهمة القتل بعذر محاربة الفساد، وهنا لم يكن النفيسي بريئا مِن إشاعة التعصب والتَّطرف، بل هذا المقال يُعدّ به كاتبه مساندا للإرهاب.
يقول النفيسي في مقاله المذكور “إن الإفساد المقصود شامل لإفساد العقول والعقائد والآداب الشخصية والاجتماعية والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة ووسائل التعاون بين الناس”. فعن أي عقول يتحدث وعن أي زراعة وتجارة؟ وهو يشرعن القتل، وأخذ الثأر، وهل هناك تخلف أعمق من التحريض على الثأر، وتوظيف النص الديني للقتل والقمع؟ كان مقال النفيسي دليلا ساطعا على دموية الإسلاميين، الدموية الشَّرسة المبررة باسم الله.
إن استشهاد النفيسي بالآية “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”(المائدة- 32-34)، يعني أن الإخوان، والإسلاميين بشكل عام، بالنسبة له، هم أهل الله وحزب الله، وهم النبي، فمَن يعارضهم يواجهونه بهذه الآية، وبأسباب نزولها، التي كانت تعني سرقة الجمال وقتلوا راعيها ومثلوا به، وهي تعود للنبي. فكلُّ حكم في الأرض يُعدّ في عرف الإسلاميين فاسدا، لأنه لا يمثل الله مثلما يمثلونه.
كم أفسد الإسلاميون وهم خارج السلطة وفي داخلها، وما لم يحسب حسابه عبدالله النفيسي أن الأحزاب الدينية وغير الدينية لم تكن مقدسة، وهذا مازال يغفله. فالإسلاميون أول مَن دشن الاغتيالات السياسية بمصر باسم الدين، وهم أجازوا التفجيرات ومارسوا “التترس”(لقتل شخص يعذرون قتل مئة أو أكثر)، في زمن معارضتهم، ولا يتأخرون عن حرق الأرض وما عليها في حال تهددت مصالحهم.
كان مقال النفيسي “أثخن بهم يا خميني.. بوركت يداك”، جزءا من “الصحوة الإسلامية”، التي أرادت عودة المجتمعات إلى ما سموه بالجاهلية، وحثوا على انقلاب في التعليم وفي الحياة العامة، فصار أتباعهم يحصون على النَّاس الأنفاس. ما هو المثال الذي انتظره النفيسي من الثورة الإيرانية؟ هل انتهى الفساد، وهل منع عدلها من حنين الإيرانيين إلى النظام السابق؟
لا يُنتقد عبدالله النفيسي، كإسلامي بدأ بالإخوان، بتأييد الثّورة الإيرانية، وكيْل المديح للخميني، فقادة إخوان كثيرون اعتبروه أحد أئمة العمل الإسلامي، لكن ما أفصح عنه مِن تأييد القتل بعبارة “أثخن فيهم…”، لم يتجرأ أي إسلامي وإرهابي على الإفصاح عن هذا الشعور الظلامي، ومعلوم ما يعني الإثخان بالدماء في ظرف مضطرب، لا يُحاسب القاتل فيه.
لم تكن مقالة النفيسي، الموغلة بالعنف والكراهية والدم، تعني الخميني لوحده، إنما هي رسالة لكلِّ الإسلاميين، أن أثخنوا بخصومكم، وأنتم تحملون سيف الله بيد وسيف النبي باليد الأخرى. استشهد النفيسي بالعنف الذي كانت تبثه أفكار سيد قطب (أعدم عام 1966)، في تفسيره لهذه الآية “ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم بعد أن أصلحها الله بمنهجه”، غير أن سيد قطب نفسه أنتج أفواجا من المفسدين بالدماء، من الجماعة الإسلامية بمصر، إلى القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها، وكان علي خامنئي أول مَن ترجم لقطب إعجابا بخطاب التشدد والعنف، وترجم له إلى الفارسية “المستقبل لهذا الدِّين”، ومؤخرا صدرت ترجمته لـ”في ظلال القرآن”. لقد لخص النفيسي بشكل لا يقبل النقاش العنف الإسلامي، على أنه عنف مقدس، يتم باسم الله ونبيه وآيات كتابه.
لكن ما يثير العجب أن النفيسي، وبعد أربعين عاما، وفي مقابلة تلفزيونية، يبرر تأييده للقتل، والعذر هذه المرة القضية الفلسطينية، وسيطرة اليهود على التجارة بإيران، وجد هذه الأعذار بعد أن سقط حلمه الإسلامي بالثورة، فراح يبرر بقضية فلسطين، التي جعلها الإسلاميون على العموم سببا لشعبيتهم.
كنتُ قرأت عنوان ما كتبه النفيسي في مقال للباحث الكويتي خليل علي حيدر، ثم سمعتها مِن النفيسي نفسه عبر مقابلة تلفزيونية “الصندوق الأسود”، تقديم الإعلامي الكويتي عمار تقي، وبقيت أبحث عنها، فلم يعط النفيسي الصحيفة التي نشر مقالته فيها، في ذلك الوقت (عام 1979) لم يكن الإنترنت ولا غوغل يقدم خدمته البحثية، حتى التقيتُ الصديق الأكاديمي والكاتب الكويتي سعود راشد العنزي الأستاذ المساعد لعلم الاجتماع في قسم الدراسات الاجتماعية في كلية التربية الأساسية بالكويت، فوعدني بالعثور عليها، فأرسل لي صورة طبق الأصل من صحيفة “الهدف” فيها المقال مشكورا.
نُشر مقال عبدالله النفيسي “أثخن فيهم يا خميني.. سلمت يداك”، قبل أكثر من أربعين عاما، ومازال الإسلاميون على سلوكهم لم يغيروا شيئا، وكاتب المقال نفسه يبرر ولا يعتذر للضحايا، ولم يعتذر لخطاب الكراهية والقتل، متسلحا بما كان يكتبه مؤسس الإخوان حسن البنا “صناعة الموت” (1937)، ثم أعاد نشره بعد سنوات في الجريدة نفسها “الإخوان المسلمون” (العدد 90) بعنوان “فن الموت” (السَّيد يوسف، الإخوان المسلمون وجذور التَّطرف الدِّيني والإرهاب في مصر).
العرب