لم أوافق صديقي خبير الطاقة حين كتب أن البيئة هي المستفيدة الوحيدة من جائحة «كورونا». فمن ناحية، ما يزال الوقت مبكراً للحكم على النتائج. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن يكون موت البشر وسقوط العالم في قبضة وباء قاتل مدعاة رضا، ولو أعطى فسحة قصيرة للطبيعة. فالهدف الأسمى أن يحيا الإنسان معافى في بيئة صحّية سليمة، ولا معنى لطبيعة صامتة خالية من الروح. غير أن حياة الإنسان ورعاية البيئة تحتاجان إلى اقتصاد معافى.
صحيح أن انحسار النشاط الاقتصادي والاجتماعي أدى إلى تخفيف الانبعاثات السامة في الهواء، وتلك المسببة للتغيُّر المناخي، مع تراجع عمل المصانع، وحركة المواصلات الجوية والبحرية والبرية، نزولاً إلى الصفر في حالات كثيرة. وصاحَبَ هذا تقلّص الأخطار على الشواطئ والغابات ومقاصد الترفيه الطبيعية الأخرى، بسبب تدابير الحجر المنزلي ومنع التجوّل. وانخفض الطلب على الموارد الطبيعية نتيجة للركود الاقتصادي، حتى وصلت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها تاريخياً. هذه كلها ردود فعل على ظروف استثنائية، ولن تعطي نتائج بعيدة المدى ما لم يتم إقرار تدابير ملائمة لتحفيز متوازن للاقتصاد يؤمّن التوازن بين حاجات البشر واستدامة الموارد.
غير أن أثر «كورونا» على البيئة يتعدى الأخبار الإيجابية عن الانخفاض المؤقت للانبعاثات، والفسحة القصيرة للطبيعة، وعودة أصوات العصافير إلى المدن. فكميات النفايات الطبية الجرثومية ازدادت على نحو غير مسبوق، وخدمات جمع النفايات المنزلية ومعالجتها تراجعت في كثير من المدن، وانخفض الطلب على الأدوات القابلة لإعادة الاستعمال، خوفاً من انتقال الجراثيم، مع ازدياد كبير في استهلاك الأدوات التي تُرمى بعد استخدام لمرة واحدة، خصوصاً في مجالات الطعام والتنظيف والحماية.
ولا يتوهّمن أحد أن الانهيار الاقتصادي يخدم البيئة. فكلّما تعمّق الانهيار، ازداد الخطر من مضاعفات تدابير التعويض الاقتصادي في المستقبل، التي قد تتجاهل الاعتبارات البيئية بحجة تلبية حاجات النموّ الملحّة. وبالفعل، بدأت بعض الدول تأخذ «كورونا» ذريعة للتراخي في تطبيق قوانين حماية البيئة، معلنة عن خطط لخفض المعايير البيئية بحجة تسريع التعافي والتعويض عما فات من معدلات النموّ الاقتصادي.
وإذا كان لنا من الماضي عبرة، فخلال الانهيار الاقتصادي الذي هزّ العالم في 2008-2009، انخفضت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون إلى مستويات قياسية، لكنها تضاعفت سريعاً عام 2010، نتيجة النموّ الصناعي السريع الذي أعقب انحسار الأزمة. ويمكن أن نتوقع تكرار السيناريو نفسه هذه المرّة، ما لم يحصل تبديل جذري في العادات القديمة.
الأكيد أن ما نعيشه اليوم هو خطر وجودي يختلف كلياً عما حصل عام 2008، مما يستدعي نمطاً مختلفاً في المعالجة. فالانهيار الاقتصادي في ذلك الزمن كان نتيجة لتداعي الأسواق المالية، في حين أنه اليوم ناجم عن وباء يمثل خطراً كيانياً على البشر، وهم المحرّك الأساسي للاقتصاد المنتج. وإذا كانت التدابير المالية كافية لتحفيز النموّ الاقتصادي، والخروج من الركود الناجم عن أسباب مالية بحتة، فهي لا تكفي لمجابهة انهيار اقتصادي سببه وباء خرج عن السيطرة، وعطّل قدرة الناس على الإنتاج.
الواقع أن البيئة والمناخ ليسا على رأس جدول الأعمال في هذا الوقت. فالأولوية هي لتطوير لقاح فعّال ودواء ناجع، وإخراج الناس من المأزق الاقتصادي. لكن أي حلّ بعيد المدى لا بد أن يكون متكاملاً، فيأخذ في الحسبان جميع الاعتبارات البيئية والاجتماعية والصحية، إلى جانب التحدي الاقتصادي. فقد أصبح ثابتاً بالدليل العلمي أن إزالة الغابات، والاتجار غير المشروع بالحياة البرية، وتمدد المدن إلى داخل الأراضي الزراعية، تزيد من ظهور الأوبئة وانتشارها، خاصة أن مصدر معظمها حيواني. كما أن التغيُّر المناخي يتسبب في انتشار الأوبئة والأمراض المعدية إلى أماكن لم تبلغها سابقاً. لذا، فالحلول التقليدية المحصورة في رفع أرقام النموّ لا تكفي في هذه الحالة، إذ إن تداخل الصحة والبيئة في الانهيار يستدعي تحولاً عميقاً منهجياً إلى اقتصاد أكثر استدامة وتوازناً، يتعدى حجم الأرقام إلى نوعية الحياة.
الثابت أن التغيُّر المناخي هو التحدّي الأكبر الذي يواجه البشرية، والتصدّي له يساعد في النهوض والتعافي. الخروج من الانكماش الاقتصادي ما بعد «كورونا» يتطلب ضخّ أموال لزيادة النمو وخلق الوظائف. لكن لا يجوز استدانة المليارات من الأجيال المقبلة لتمويل برامج اقتصادية تقضي على إمكانية الحياة في المستقبل. لذا، فليذهب التمويل إلى كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة وأساليب الإنتاج الأنظف والبحث العلمي والزراعة ذات الكفاءة والتنمية مع الطبيعة لا ضدها. فهذه أيضاً كفيلة بإنهاض الاقتصاد، وخلق مزيد من الوظائف، مع الحفاظ على رأس المال الطبيعي في الوقت عينه.
هل ستترك بعض العادات الشخصية والاجتماعية التي فرضها «كورونا» بصمة على البيئة في المدى البعيد؟ وهل سيكتشف الناس طريقة حياة جديدة تقود إلى تغييرات دائمة، مثل التخفيف من فضلات الطعام، والعمل يومين أسبوعياً من المنزل، وعقد الاجتماعات عبر الإنترنت، بدلاً من استخدام وسائل النقل، وقضاء عدد أكبر من العطل داخل بلدانهم ومناطقهم، بدلاً من السفر آلاف الأميال بالطائرة؟ هذه كلها تساهم في جهود إنعاش الاقتصاد من خلال نشاطات مستدامة. فالتدهور البيئي ليس قدراً.
نجيب صعب
الشرق الأوسط