يُطلق تعبير “فخ ثيوسيديدز” (Thucydides Trap) تاريخيا لوصف حالة تهديد أثينا -مهد حضارة الإغريق- من قبل قوة صاعدة (الصين في عصرنا الحالي) بإزاحة أسبرطة، وهي القوة المهيمنة (الولايات المتحدة حاليا) على الساحة الدولية.
ومع الصعود الكبير في الاقتصاد الصيني خلال العقود الأخيرة، خرجت عشرات الدراسات المبشرة بحتمية الصدام المستقبلي بين الصين والولايات المتحدة.
ودفعت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) وتبعاتها المتسارعة إلى توتر غير مسبوق في العلاقات بين البلدين، وهو ما يراه البعض تطورا طبيعيا في ظل طبيعة أهدافهما المتعارضة.
وأكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض مساء الخميس، أنه اطلع على أدلة تشير إلى أن معهد ووهان المتخصص بالفيروسات هو مصدر فيروس كورونا، مضيفا “لا أفهم كيف منعت الصين الدخول والخروج من بعض المدن، وسمحوا باستمرار الانتقال عالميا من وإلى الصين”.
وقبل ذلك بيوم واحد، أكد وزير الخارجية بومبيو لشبكة “فوكس” الإخبارية أنه “تقع على الحزب الشيوعي الصيني الآن مسؤولية القول للعالم كيف خرجت هذه الجائحة من الصين وامتدت إلى العالم بأسره، مما تسبب في هذا الدمار الاقتصادي العالمي”.
اعلان
كما أشارت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن مسؤولين أميركيين كبارا يعقدون اجتماعات للتشاور حول إجراءات انتقامية قد تتخذها إدارة ترامب ضد الصين.
ودفعت الاتهامات الأميركية الخارجية الصينية للرد على لسان المتحدث الرسمي باسمها جينغ تشونغ بالقول “على الولايات المتحدة أن تدرك أن عدوها هو الفيروس وليس الصين، وعليها التركيز في مكافحة انتشاره داخل حدودها بدلا من إلقاء اللوم على الصين”.
من جانب آخر، عرضت محطات تلفزيون أميركية كثيرة إعلانا تموله حملة المرشح الرئاسي جو بايدن، يُتهم فيه الرئيس بالتساهل تجاه الصين.
بديل احتواء الصين
البروفيسور جون مارشيمر من جامعة شيكاغو، يعرض في كتابه الشهير “تراجيديا القوى العظمى” لقوة الصين التي لا يمكن مقارنتها بالولايات المتحدة، ويرى أنه يمكن لجيران الصين أن يقوموا بالدور الرئيسي في احتوائها كي لا تصبح قوة إقليمية في شرق آسيا.
وتمتلك الصين علاقات غير مستقرة مع أغلب الدول المجاورة لها، وما زالت هناك خلافات صينية مع اليابان حول جزر سينكاكو شرق بحر الصين، يغذيها تاريخ طويل من الحروب بين الدولتين.
وهناك تايوان التي تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من أراضيها، وتهدد بضمها إذا أعلنت استقلالها، وتعهدت واشنطن بدخول الحرب إذا أقدمت الصين على ضم تايوان بالقوة المسلحة.
كما دفع طموح بكين للتوسع في مياه بحر جنوب الصين خلال السنوات الأخيرة، إلى صدامات بينها وبين كل من فيتنام والفلبين. وتعتمد الدولتان على الوجود العسكري الأميركي لردع بكين، كما يوجد عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين في اليابان وكوريا الجنوبية المجاورتين.
هلال عسكري
ويرى الصينيون أن بلادهم محاصرة بهلال عسكري أميركي من الشرق والجنوب. ويتوقع كثير من الخبراء أنه مع الزيادة الضخمة في حجم الاقتصاد الصيني وتراكم الثروة، ستتجه الصين إلى توسيع قدراتها العسكرية وستبدأ بمحاولات الهيمنة على جيرانها أولا.
وفي دراسة أكاديمية له، يعتقد الأكاديمي بجامعة ولاية يوتا الأميركية ستيفن لوبيل أنه مع صعودها الاقتصادي ستحاول الصين -بلا شك- أن تعادل القدرة البحرية الأميركية في المحيط الهادي، عن طريق بناء قدرات عسكرية بحرية تقارب نظيرتها الأميركية.
وفي تصريحات صحفية، يقترح لوبيل أن يتم قبول الصين كقوة كبرى عسكريا كواقع جديد، في حين يعارض خبراء آخرون هذا الطرح ويطالبون بضرورة البدء باتخاذ خطوات استباقية تمنع توسعها عسكريا، حتى لو استلزم الأمر شن هجمات عسكرية لتحقيق هذا الهدف.
ويعتقد البروفيسور مارشيمر أن قوة الصين الاقتصادية ستدفعها للهيمنة على آسيا بنفس الطريقة التي تهيمن بها الولايات المتحدة على الأميركتين.
ونصح بدعم التعاون العسكري مع الهند الجار الغربي للصين، ومع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، من أجل الوقوف في وجه هيمنة بكين على القارة الآسيوية.
ويطرح مارشيمر سؤالا حول إمكانية احتواء الطموح الصيني سلميا ودون اللجوء إلى خيار الحرب، علما بأنه لم يُعرف عن الصين اتباع سياسات عدائية مسلحة منذ انتهاء نزاعها الحدودي مع فيتنام قبل أكثر من 40 عاما، في حين عرفت أميركا سياسة التدخل العسكري في كل بقاع العالم وبلا توقف.
مخاوف قديمة
ويعد بعض الخبراء العام 2001 نقطة مفصلية في صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة. ففي هذه الفترة وقعت هجمات 11 سبتمبر/أيلول وما تبعها من غزو واشنطن لأفغانستان والعراق وبدء حربها على الإرهاب العالمي، وفي نفس العام تم قبول الصين في عضوية منظمة التجارة الدولية.
وانشغلت واشنطن بحروبها، في حين تفرغت بكين للتصنيع وحرية التجارة دون رقيب أو إلزام بتغيير سياساتها الحمائية ضد الاستثمار الأجنبي والسماح للشركات الأجنبية بدخول أسواقها إلا بعد الانصياع لشروط الحكومة الصينية.
وقبل سنوات، أطلق البروفيسور غراهام آليسون من جامعة هارفارد صرخة فزع، محذرا العالم من ضرورة الاستعداد لصدام لا يمكن تجنبه بين الولايات المتحدة والصين طبقا لمنطق “فخ ثيوسيديدز”.
وترأس آليسون فريقا أكاديميا بحث في 16 نموذج منافسة بين القوة المهيمنة والقوة الصاعدة منذ القرن الـ16 وحتى الحرب الباردة، وكيف تغيرت دفة القيادة العالمية.
وانتهت الدراسة إلى أن الحرب المسلحة حسمت 12 حالة، بينما تم التغيير السلمي في أربع حالات فقط، منها حالة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، والتي انتهت بانتصار أميركي دون الحاجة إلى صراع مسلح مباشر.
من ناحية أخرى، شهدت الصين نموا اقتصاديا بمثابة المعجزة خلال العقود الأربعة الأخيرة، حيث قفز ناتجها القومي الإجمالي مقدرا بالقوة الشرائية مقارنة بالولايات المتحدة من 10% عام 1980 إلى 60% عام 2014، وزاد الناتج القومي الإجمالي بالدولار من 7 إلى 102%، وإجمالي الصادرات من 6 إلى 105%، وإجمالي الاحتياطي الأجنبي من 18 إلى 280% في ذات الفترة، مقارنة بالولايات المتحدة.
وتعكس الأرقام السابقة ما وصلت إليه الصين اقتصاديا وتجاريا، إذ أصبحت الشريك التجاري الأول لأغلب دول العالم. وبلغ حجم الاقتصاد الصيني عام 1980 نفس حجم الاقتصاد الهولندي، واليوم يتخطى الاقتصاد الصيني مثيله الأوروبي.
اعلان
علاقات وأسلحة
وترى الكثير من المدارس الفكرية استحالة قيام نزاع عسكري بين الصين والولايات المتحدة اعتمادا على حجم وكثافة العلاقات التجارية والاقتصادية التي تخطت قيمتها 700 مليار دولار العام الماضي، إضافة إلى امتلاك الطرفين أسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات.
لكن هذه المدارس تتجاهل التجارب التاريخية التي كشفت أن ضخامة العلاقات التجارية والاقتصادية بين ألمانيا وبريطانيا وبقية جيرانها قبل الحرب العالمية الثانية لم تمنع من دخول الحرب. فالاعتماد المتبادل في الجانب التجاري والاقتصادي ليس كفيلا بضمان السلام، فالسياسة هي من يحرك الاقتصاد وليس العكس.
من ناحية أخرى، يمكن أن تقع الحرب على نطاق بحري فقط أو في منطقة جغرافية محددة بما لا يستدعي اللجوء إلى الأسلحة النووية. وعرفت الحرب الكورية هذا النموذج، إذ شاركت الولايات المتحدة داعمة للجنوبيين، وتدخلت الصين مع الشماليين ولم تستخدم الأسلحة النووية. كما حدثت مواجهات غير مباشرة مختلفة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة في عدد من بقاع العالم دون أن يتم اللجوء إلى السلاح النووي.
مواجهة ولكن..
وأشارت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي بداية عهد ترامب صراحة إلى أن الصين تسعى إلى تحدي قوة واشنطن ونفوذها ومصالحها، في محاولة للإضرار بأمن ورخاء الشعب الأميركي.
كما أشارت إستراتيجية الدفاع الوطني الصادرة من وزارة الدفاع الأميركية منتصف العام 2018 بوضوح إلى الصين على أنها “منافس إستراتيجي يسعى لتحديث قواته المسلحة لضمان سيطرته الإقليمية على المحيط الهادي وجنوب آسيا، ومقارعة نفوذ الولايات المتحدة العالمي”.
وتخطت ميزانية الصين العسكرية 170 مليار دولار عام 2018 ارتفاعا من 77 مليارا فقط عام 2007. وارتبطت بالزيادة العسكرية زيادة أعداد الجنود لتتخطى المليونين.
اعلان
ويرى بعض الخبراء العسكريين أن احتواء الصين سلميا الآن من شأنه فقط تأجيل موعد المواجهة عدة سنوات. وستكشف الأيام القادمة إن كان فيروس كورونا سيؤدي إلى تسريع المواجهة بين الطرفين، أم سيجبرهما على التعاون المشترك لهزيمته؟
محمد المنشاوي
الجزيرة