منذ حوالي قرن من الزمان، وتحديداً قبل انتصار الثورة البلشفية في روسيا في تشرين الأول (أكتوبر) 1917، كتب القيادي الشيوعي والزعيم السوفياتي الراحل فلاديمير إليتش أوليانوف، المعروف باسم لينين، كتاباً شهيراً كان عنوانه «الثورة والدولة»، اعتبر فيه أنه يتعين عند تمكن الشيوعيين من إطلاق وقيادة الثورة وتحقيق الانتصار والتمكن من مقاليد الحكم أن يتم القضاء على الدولة ومؤسساتها وتفكيك بنيتها، والتي اعتبرها مجرد أداة في يد الطبقة البورجوازية المهيمنة تنفذ سياساتها، تحت ستار الدفع بحيادية تلك الدولة، وفي الوقت نفسه قمع الطبقة العاملة والبطش بها سياسياً واستغلالها ونهب فائض قيمة عملها اقتصادياً والسيطرة على حركتها والإطباق عليها اجتماعياً. إلا أن ما حدث على الأرض بعد انتصار الثورة البلشفية كان أن تم تعزيز قبضة الدولة ومؤسساتها، بالطبع بعد إحلال مؤسسات جديدة محل التي كانت موجودة من قبل، وتحولت الدولة التي حذر لينين منها كأداة لتكريس سيطرة الطبقة البورجوازية وقمع الطبقة العاملة، إلى أداة في يد القوى الثورية للإجهاز على مؤسسات البورجوازية والقضاء على امتيازاتها، ومن ثم تحولت إلى وسيلة لبناء الاشتراكية التي تقود الانتقال إلى المرحلة الشيوعية.
كانت هذه المقدمة ضرورية للتعرف على حقيقة مفادها أنه في معظم الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني، بخاصة في حقبتيه الحديثة والمعاصرة، يبدأ الثوار حركاتهم الثورية بالدعوة إلى تفكيك الدولة ومؤسساتها كشرط لاستكمال الثورة لأداء المهام المنوطة بها وتحقيق الأهداف المأمولة منها من جانب قواعدها الشعبية والجماهيرية، ولكنهم بعد استيلائهم على السلطة سرعان ما يتجهون إلى العمل في اتجاه معاكس، بما يضمن لهم تحقيق السيطرة على مؤسسات الدولة وإعادة توجيه حركتها بما يخدم مسار الثورة والعمل على تحقيق أهدافها.
وننتقل هنا إلى جوهر موضوع هذا المقال، حيث نرصد على امتداد البلدان العربية منذ اندلاع «الربيع العربي» تحولاً ثابتاً لدى الرأي العام، وانتقالاً من مرحلة الرهان على التحولات الثورية السريعة وذات الأثر العميق في المجتمعات والشعوب، إلى العودة إلى الرهان على خيار الدولة بما تمثله من استقرار وما توفره من أمن وفرص للتنمية الاقتصادية، بدلاً من الحالة الثورية التي تؤدي إلى تعطيل العمل في المنشآت الاقتصادية وانسحاب الاستثمارات، وإيجاد حالة ثورية تفتقد معايير الأمن أو معرفة المستقبل.
ولكي نتفهم حقيقة هذا التحول، وحتى لا نتهم الشعوب بأنها «قصيرة النفس» في حركتها الثورية، أو أنها تسعى إلى تأمين مصالح فئوية، يتعين علينا أن ندرك أن ثمة أسباباً موضوعية تفسر، بل تبرر، مثل هذا التحول المتواصل والمتصاعد على مدى أكثر من أربع سنوات، وذلك من دون الانحياز الى وجهة نظر أيديولوجية أو سياسية على حساب أخرى.
ولا يستطيع أي منصف أن ينفي أو يشكّك في الحماس الثوري الذي كان موجوداً لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية التي شهدت اندلاع ثورات «الربيع العربي»، كما لا يستطيع أي مراقب محايد أن ينكر الآمال العريضة التي علقتها تلك الجماهير على هذه التحركات الثورية لتلبية مطالبها، فبقي الأمل في انتفاضات الشارع لتحقق هذه الآمال بأيدي الشعوب ذاتها وبفعل زخم حركتها في الشارع.
ولم تقتصر المطالب الجماهيرية على مجال دون آخر من مجالات الحياة في هذه المجتمعات، بل اتصفت بالشمول وتضمنت التطلع إلى التمتع بالحريات الأساسية، الفردية والجماعية على حد سواء، وحقوق الإنسان، وكذلك الأمل في بناء نظام سياسي حديث يقوم على المشاركة السياسية الكاملة وعلى ركائز سيادة القانون والقدرة على المساءلة، وبناء اقتصاد يتسم بالتوازن بين قطاعاته المختلفة، ومنح الأولوية لاعتبارات العدالة الاجتماعية باعتبارها مقوماً رئيسياً من مقومات الدولة المنشودة والمجتمع المأمول، وقبل ذلك كان هناك شعور عارم لدى قطاعات واسعة من تلك الشعوب بامتهان الكرامة من جهتين: الكرامة الوطنية للدولة من جانب قوى خارجية صارت الإرادة الوطنية مرتهنة لديها، والكرامة الإنسانية للمواطنين من جانب أدوات ومؤسسات داخل إطار السلطات القائمة في تلك البلدان، وبالتالي تولدت رغبة لاستعادة الكرامة على المستويين، كما كان هناك إحساس بافتقاد الهوية الوطنية الجامعة نتيجة تراكم معاول الهدم وعناصر التآكل، عن قصد أو عن جهل، للمكونات الرئيسية للثقافة الوطنية الموحدة للشعوب والتي تمثل في آن واحد الذاكرة الجماعية والمرجعية الوجدانية لكل شعب، وهي تطورات أدت إلى تطلب النضال لإحياء جذوة هذه الهوية الجامعة واستحضار هذه الثقافة الوطنية وتطهير مكوناتها مما علق بها من شوائب على مدار عقود.
وفي مقابل هذه التطلعات المشروعة والآمال الوردية، وجدت الشعوب تلك البلدان أن أشرعة السفينة تتجه بهم إلى المجهول، وأن عدم الاستقرار وغياب الأمن يتضاعف، وأن التطورات الحاصلة على الأرض لا تضمن بالضرورة الاتجاه إلى الأفضل، بل بدت الصورة وكأن الأمور تسير من سيىء إلى أسوأ، أو كأنها تواجه «سيئاً» مجهولاً لم تعهده ولا تعرف مآله، بدلاً من «سيىء» معروف كانت قد خبرت طبيعته لسنوات وتعايشت معه وتعلمت بمرور الوقت كيفية التعامل معه واختراقه، بل وأحياناً انتزاع بعض الحقوق من مخالبه.
وعندما وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، بدأ مطلب التغيير الثوري يتحول إلى هاجس، بل وكابوس، لدى كثيرين، نتيجة ضبابية الرؤية وعدم وضوح الطريق، ولا معرفة النوايا الحقيقية للأطراف الجديدة الفاعلة في مشهد «الحالة الثورية»، ومدى علاقتها بالدوافع النبيلة والأهداف الأصلية لثورات وانتفاضات تلك الشعوب. ومما زاد الطين بلة أنه في خضم كل تلك الأمواج، بدا للعديد من الشعوب العربية التي أطلقت شرارة الثورات أن بعض بلدانها تتجه إلى الفوضى، أو إلى التقسيم، أو أنها تحولت إلى أرض خصبة لنشاط جماعات تمارس درجات مخيفة من العنف وترويع الآمنين وإلى ميدان للتقاتل بين هذه الجماعات أو بينها وبين سلطات دولها، وبالتالي بدت «الدولة» ذاتها في مهب الريح ومعرضة للتآكل والاضمحلال بفعل ما يتقاذفها من أخطار.
وفي تلك اللحظة التاريخية، صار الخيار ليس بين الدولة والثورة، بل بين «الدولة» و»اللادولة»، وبدا الخيار الأخير مخيفاً لشعوب عاشت قروناً تعتبر كيان الدولة أمراً مفروغاً منه ومسلماً به، ففوجئت بين عشية وضحاها أن «الدولة» تغيب تدريجاً عن الساحة في دولها أو في دول متاخمة لها، وبالتالي تبدلت الأولويات، وصارت غريزة بقاء الدولة هي الأهم والأكثر إلحاحاً، لأن من دون وجود الدولة لا معنى للحديث عن تحولات ثورية، فالدولة هي الوعاء الذي يتم الحراك المجتمعي في سياقه وتتم التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في إطاره.
والمحصلة النهائية لما تقدم أن الشعوب لم تتراجع عن ثوراتها أو انتفاضاتها ولكنها، وفي ضوء معطيات الواقع، أدركت ضرورة إعادة النظر، ومن ثم تعديل الأولويات، فصار الحفاظ على الدولة المهمة الأولى، في وقت تموج الأنواء بما يهدد وجود الدولة في بعض البلدان العربية، ومخاطر تتعلق بوحدتها في بلدان عربية أخرى، سواء تلك التي شملتها ظاهرة «الربيع العربي»، أو حتى غيرها من البلدان العربية، من دون أن يعني ذلك تناسي الشعوب لمطالبها الأصلية أو التراجع عنها بشكل نهائي، بل هي إعادة نظر في الأولويات بشكل مرحلي لضمان استمرار الدولة ومؤسساتها حتى لا تقع الشعوب والبلدان فريسة للفوضى أو الاختراق الخارجي أو التقسيم والتجزئة، وعلى أن يتم بشكل مرحلي تأجيل مطالب الثورات والانتفاضات إلى مرحلة قادمة، آتية لا ريب فيها.
وليد محمود عبدالناصر
صحيفة الحياة اللندنية