تفتح ديون الدول الفقيرة المتفاقمة جبهة جديدة في الصراع الدائر بين واشنطن وبكين حول صياغة “النظام العالمي” الجديد الجاري التخطيط له بعد جائحة “كوفيد 19” التي تضرب الاقتصادات الدولية بقسوة منذ بداية العام الجاري وتخلق مسارات جديدة في الخارطة المالية والتجارية والسياسية. وربما ستضاف جبهة الخلاف حول تجميد خدمة ديون العالم النامي التي أقرتها مجموعة العشرين في شهر إبريل/ نيسان الماضي، إلى جبهات نزاع التجارة والتقنية والاقتصاد المستفحل بين واشنطن وبكين.
ويهدد تجميد دفعيات ديون العالم الفقير الذي تعهدت به مجموعة العشرين ووقعت عليه بكين، تسديد القروض التي منحتها المؤسسات المصرفية الصينية للدول النامية والفقيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ولكن الصين لاحقاً استدركت أن هذا التعهد يضر بالقروض التي منحتها مؤسساتها المالية لمشاريع مبادرة “الحزام والطريق” البالغة 350 مليار دولار، حسب تقديرات مدير مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، بين ستيل.
وكانت وزارة التجارة الصينية قالت في بيان، الأسبوع الماضي، إن هذا التعهد لا يشمل القروض التي قدمها بنك الواردات والصادرات الصيني لتمويل مشاريع “الحزام والطريق” في خطوة تنم عن تنصّل الصين عن جزء من التعهدات التي قطعتها مع بقية أعضاء مجموعة العشرين.
وفي تأكيد على خطوة التراجع الصينية، قال مدير “مجلس العلاقات الخارجية” الأميركي، بين ستيل، إن “الصين وقعت على تعهد مجموعة العشرين بتجميد دفعيات القروض للدول الفقيرة ولكنها تراجعت بعد التعهد، وقالت إن القروض التي قدمها بنك الصادرات والواردات الصيني ليست متضمنة في هذا التوقيع”.
وتضغط إدارة الرئيس دونالد ترامب ورجالات الحزب الجمهوري على الصين للإيفاء بتعهداتها ضمن خطوات محاصرة واشنطن للنفوذ السياسي والدبلوماسي الصيني الذي يستخدم مشاريع “الحزام والطريق” للتمدد التجاري والاقتصادي ومنافسة الولايات المتحدة عالمياً.
في هذا الشأن ترى مجموعة من رجالات الكونغرس بالحزب الجمهوري، أن الصين تستخدم “شراك الديون” لتوسيع نفوذها السياسي والدبلوماسي في العالم، وبالتالي يجب على واشنطن أن تحرمها من ذلك. ويرى خبراء أميركيون، أن الصين ربما تستخدم الضائقة المالية التي تخنق الدول النامية والفقيرة بسبب جائحة “كوفيد 19” للحصول على تنازلات سياسية أو ربما استغلال هذه القروض لوضع يدها على موارد معدنية ونفطية في أفريقيا وآسيا.
في هذا الشأن دعت مجموعة من رجالات الكونغرس الأميركي مكونة من 16 سناتوراً جمهورياً وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشن، للضغط على الصين ومطالبتها بإعادة التفاوض حول القروض التي قدمتها للدول النامية وأن الظروف التي تمر بها الدول الفقيرة تستدعي تحرك واشنطن. من جانبه، يرى البروفسور الأميركي بجامعة هارفارد، كينيث روغوف، أن جائحة الوباء التاجي ربما ستوفر فرصة للولايات المتحدة لوقف أجندة “تمدد النفوذ الصيني” في العالم.
وتستخدم الصين منذ العام 2013 مبادرة “الحزام والطريق” للتمدد التجاري والمالي وتدويل اليوان عبر السياسات المالية والتجارية وتقديم القروض التي تبدو سهلة وميسرة في ظاهرها، لكنها تحمل العديد من الشروط القاسية لدى فشل أصحابها عن التسديد.
ودعا البروفسور روغوف، إدارة الرئيس ترامب لقيادة الجهود الدولية عبر الحكومات الغربية والمؤسسات متعددة الأطراف مثل البنك وصندوق النقد الدوليين للضغط على بكين لإعادة جدولة ديونها على دول العالم النامي. وهي خطوة تتخوف منها بكين في الوقت الراهن الذي تعاني فيه من ضغوط أميركية على جبهات سياسية وتجارية بالغة الحساسية.
ومنذ تفشي جائحة الفيروس التاجي، تعاني دول العالم النامي من أزمة مالية مستفحلة، إذ أنها تواجه أزمة في الحصول على العملات الصعبة لتلبية متطلبات الواردات الصحية وخدمة أقساط الديون وهروب الرساميل. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن حوالى 100 مليار دولار هربت من الدول الفقيرة منذ بداية العالم الجاري، في ذات الوقت الذي تراجعت فيه تحويلات مغتربيها الذين يعملون في الدول الغنية في أوروبا وأميركا ودول الخليج النفطية بسبب الإغلاق والعزل الاجتماعي.
وتخلصت دول الخليج خلال الشهور الأخيرة من مئات الآلاف من العمال والموظفين، كما أدى إغلاق الاقتصادات في أوروبا وأميركا إلى تعليق الوظائف في العديد من الشركات الكبرى. ويتوقع الصندوق الدولي في تقريره الأخير، أن تتراجع تحويلات مغتربي الدول الفقيرة بحوالى 100 مليار دولار خلال العام الجاري.
ويتزامن هذا التراجع أو شبه الجفاف في تحويلات مغتربي الدول الفقيرة مع تراجع الطلب العالمي على السلع الأولية التي تصدرها وتدهور أسعار القليل الذي تم تصديره. ومعروف أن اقتصادات الدول الفقيرة تعتمد في نموها على تصدير السلع الأولية وتحويلات المغتربين والسياحة التي توقفت تماماً خلال العام الجاري.
وسط هذه الظروف المالية القاهرة، تبتعد المصارف التجارية الغربية عن إقراض الدول الفقيرة وكذلك من تسويق السندات التي ترغب في طرحها في الأسواق المالية بهدف جمع تمويلات دولارية. وترى المصارف التجارية الغربية أن مخاطر الإفلاس وعدم القدرة على سداد الديون السيادية وديون الشركات باتت مرتفعة جداً في الدول النامية والفقيرة، وتدق جرس الإنذار باحتمال أن تتفاعل هذه الديون لتحدث أزمة في سوق الائتمان العالمي.
وتشير بيانات مصرف “جي بي مورغان” إلى أن الفارق بين العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل عشر سنوات وسندات الاقتصادات الناشئة يتزايد بمعدلات كبيرة. وحسب الخبير المالي بمجموعة “آر دبليو آر أدفايزري غروب”، أندرو دافنبورت، فإن إجمالي القروض التي قدمتها الصين ضمن تمويلات مشروعات “الحزام والطريق”، بلغت 350 مليار دولار منذ العام 2013. أكبرها لروسيا، إذ بلغت 55.9 مليار دولار، ولأندونيسيا 44.5 مليار دولار ولباكستان 37.5 مليار دولار ولإيران 29.8 مليار دولار ولنيجيريا 28 مليار دولار، ولمصر 14.9 مليار دولار. وهنالك قروض في خانة 10 مليارات وأقل للعديد من الدول الفقيرة في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
ويرى الخبير دافنبورت، أن جائحة كوفيد 19 تضع المؤسسات الصينية وعلى رأسها بنك الصادرات والواردات تحت اختبار حقيقي. ولا يستبعد دافنبورت، أن تكتب هذه الجائحة نهاية لمشروع “الحزام والطريق” في حال عدم تسديد هذه الدول للقروض. ولكن المخاوف تبقى من أن تستخدم الصين عدم قدرة هذه الدول في السداد وتقوم بالاستيلاء على مواردها المهمة، مثلما حدث في أندونيسيا.
وفي 23 إبريل/ نيسان الماضي، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد”، تقريراً يدعو إلى “إبرام صفقة دولية لتخفيف ديون الدول النامية”. وقالت إن هنالك حاجة لشطب ترليون دولار من ديون الدول الفقيرة. كما دعت إلى تأسيس هيئة دولية للإشراف على برامج تخفيف عبء الديون.
كما دعت كذلك إلى إنشاء ما أسمته “حزمة أزمة فيروس كورونا” والتي قدرت أن ترصد لها الدول الغنية والمؤسسات المالية متعددة الأطراف حوالى 2.5 ترليون دولار، قائلة إنه حتى قبل أزمة كورونا، فإن الديون الخارجية ترهق كاهل الاقتصادات النامية وتأخذ أقساط تسديدها حصة كبيرة من إيراداتها الحكومية، وتضغط تبعاً لذلك على نفقاتها الصحية والاجتماعية.
وتتخوف منظمة التجارة العالمية من أن تتسبب الديون المتراكمة وخدمتها كارثة ائتمان دولية تعرقل مسارات التجارة في العقد الجاري. وحسب إحصائيات “أونكتاد”، حول ديون الدول الفقيرة، احتلت جيبوتي المركز الأول عالمياً، بينما جاءت فنزويلا في المركز الثاني.
العربي الجديد