على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، لجأ رامي مخلوف، ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن خيبة أمله من التهديدات الأخيرة للنظام التي استهدفت إمبراطوريته التجارية، التي تشكل نسبة هائلة من الاقتصاد السوري تصل إلى ما بين 60-80 في المائة، وفقاً لبعض التقارير. وقد قام الأسد وزوجته، أسماء، باتهام مخلوف علناً بالفساد، وذلك لإبعاد اللوم عنهم عن مسؤولية الوضع الاقتصادي المضطرب في البلاد والضغط على مخلوف لإصلاحه على حد سواء. وتشمل الأرصدة العديدة للملياردير، الشركة المحتكرة للاتصالات “سيريتل”، وشركات كبيرة في قطاعات النفط، والغاز، والمصارف، والبناء، وتجارة التجزئة، والعقارات. وفي عام 2011، قدرت صحيفة “لوموند” الفرنسية صافي ثروته بـ 6 مليارات دولار. وأدّت هذه الثروة، إلى جانب علاقاته بالحلقة الداخلية للسلطة في سوريا، دوراً مهماً في تمويل الحملة التي شنّها الأسد لقمع انتفاضة عام 2011 وفي صمود النظام خلال تسع سنوات من الصراع.
وبالنظر إلى نفوذ مخلوف الكبير على المستقبل الاقتصادي للبلاد وميله إلى تجنّب المشاحنات العلنية مع الأسد، فقد جاءت رسائل الفيديو الثلاث الأخيرة التي نشرها مخلوف – في 30 نيسان/أبريل و 3 أيار/مايو و 17 أيار/مايو – بمثابة صدمة للعديد من المراقبين. ومع ذلك، لطالما كانت الأسرة تعاني من تصدعات داخلية، وحتى عندما يصدر أعضاء كبار تهديدات ضد بعضهم البعض (أو يقومون بتنفيذها)، فإن ذلك لا يشير بالضرورة إلى أن زوال النظام بات وشيكاً.
عائلة الأسد نجت من أسوأ الصدوع في الماضي
قبل ما يقارب من أربعة عقود، اضطر النظام السوري إلى التعامل مع ما بدا وكأنه تهديد وجودي أكثر مباشرة يتعلق بوالد بشار، الرئيس السابق حافظ الأسد. ففي 13 نيسان/ أبريل 1984، خرج رفعت، أصغر أشقاء حافظ، في مسيرة في دمشق بهدف السيطرة على الحكومة، مدفوعاً إلى حد كبير من صحة الرئيس المتدهورة بشدة آنذاك (من بينها نوبة قلبية خطيرة). وقام أنصار رفعت بتغطية شوارع العاصمة بملصقات لصورته لحشد التأييد الشعبي له. وكان الأمر الأكثر إثارة للقلق هو استخدامه منصبه كقائد لـ “قوى الأمن الداخلي” و “سرايا الدفاع” شبه العسكرية لتعبئة ما يقرب من نصف الجيش السوري في غضون أيام. ثم قام بنشر دبابات في موقعيْن يشكلان تهديداً خاصاً حول دمشق هما: منطقة كفر سوسة، حيث يقع كل من مجلس الوزراء ووزارة الخارجية، وجبل قاسيون، المطل على قلب العاصمة.
ووفقاً لوزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، انتهت المواجهة بين الشقيقين أخيراً عندما تدخلت والدتهما، ناعسة شاليش، دعماً لحافظ. وليس هناك شك في أن الحادث لم يخلو من عواقب وخيمة: فقد تم تجريد رفعت من جميع صلاحياته ومناصبه السياسية، وفي غضون شهر بعد محاولة الانقلاب، نفاه حافظ بشكل دائم من البلاد. ومع ذلك، بقي النظام راسخاً على غرار ما كان عليه قبل الأزمة.
وظهرت مواجهة مماثلة على ما يبدو بعد ما يقارب من ثلاثين عاماً، وهذه المرة أثناء تولي بشار السلطة. ففي 18 تموز/ يوليو 2012، قُتل صهره، آصف شوكت في ظروف ما زالت غامضة خلال اجتماع بمقر الأمن القومي في وسط دمشق، وكان قد استُهدف كجزء من “خلية إدارة الأزمات” التي كُلّف فيها كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين باحتواء الاحتجاجات وقمع الثورة بكافة الوسائل الممكنة. وكنائب وزير الدفاع في ذلك الوقت، كان آصف شوكت قد شغل سابقاً منصب رئيس الاستخبارات العسكرية بين عامي 2005 و 2009، وأصبح في إحدى الفترات أحد أقرب مستشاري الأمن للأسد.
إلا أن هذا التقارب أخفى تنافساً قديماً بين الرجلين لم يتبدد تماماً. فبعد وفاة حافظ في عام 2000 وترقية بشار غير الدستورية إلى الرئاسة، كان شوكت أحد أكثر الشخصيات نفوذاً في النظام. واعتبر نفسه هو وزوجته – بشرى الأسد، الأخت الكبرى لبشار – أكثر جدارة بالمنصب الأعلى بالنظر إلى مسيرة شوكت الطويلة في قطاع الأمن، ويبدو أن هذا الشعور كان يتزايد لسنوات. ومع ذلك، ضمنت الخلفية الشخصية لشوكت عدم ثقة بشار وأشقائه به بصورة كاملة، ناهيك عن منحه فرصة في الرئاسة. ومثلها مثل العديد من القبائل البدوية، هاجرت عائلة شوكت من المنطقة الصحراوية في سوريا في خمسينيات القرن الماضي بسبب الجفاف، واستقرت في قرية “المدحلة” العلوية على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وهكذا، بينما نشأ في الطائفة العلوية وبين العلويين من عائلة الأسد، إلا أن أصوله البدوية السنية أثارت الشكوك داخل العشيرة عندما علموا بزواجه السري من بشرى في عام 1995. كما أنهم لم ينسوا أبداً تعامله مع رفعت الأسد ومشاركته في إعداد سرايا الدفاع، وهي إحدى الوحدات التي هددت حكم حافظ الأسد عام 1984.
وبالنظر إلى سمعة عائلة الأسد في تسوية الحسابات وحماية سلطتها عبر قتل أقرب المقربين، يعتقد العديد من المراقبين أن بشار أمر باغتيال شوكت في عام 2012. وفي وقت الهجوم، كان بإمكان النظام وحده تنفيذ مثل هذه العملية المعقدة في الفناء الخلفي الخاص به. بالإضافة إلى ذلك، انتشرت شائعات عن انقلاب عسكري محتمل نظمه شوكت قبل وقت قصير من مقتله، في الوقت الذي كانت فيه عمليات الانشقاق في صفوف قادة الجيش وكبار مسؤولي النظام آخذة في الازدياد.
الملحمة الحالية لمخلوف
في ضوء الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها سوريا، تدرك كل من أسرة الأسد ومخلوف بأن عليهم تسوية خلافهم من أجل منع حدوث انهيار كامل. لذلك، فإن المفاوضات جارية بالفعل بشكل مناوشات علنية وتحركات أخرى. ويحظى مخلوف بفرصة هامة للفوز – ليس فقط لأنه يملك عدداً كبيراً من الشركات السورية، بل أيضاً لأنه يشرف على المصالح الاجتماعية والاقتصادية لإيران على أرض الواقع من خلال “جمعية البستان”، و “خصائص بينا”، وغيرها من الكيانات.
وشكّل نشر قضيته عبر وسائل التواصل الاجتماعي إحدى الوسائل لتوجيه الرسائل إلى العديد من حلفائه في الطائفة العلوية، والتي هي ليست بمنأى عن الفقر الذي يلوح في الأفق في معظم أنحاء البلاد. ويبدو أن أسماء الأسد قد أدركت ضعف النظام على هذه الجبهة، فلجأت إلى استخدام “الفيسبوك” وورشات عمل خاصة لمعالجة بعض المخاوف التي ذكرها مخلوف في مقاطع الفيديو الخاصة به. على سبيل المثال، وعدت مؤخراً بإعالة “العائلات الفقيرة” لأفراد الأجهزة الأمنية والعسكرية الذين تضرروا من الحرب. وفي غضون ذلك، أفادت بعض التقارير أن بشار الأسد يفكر في ترشيح نجل مخلوف، محمد، لتولي رئاسة شركة “سيريتل”، وهي الشركة الكبيرة التي تقدم خدمات الهاتف النقال إلى معظم السكان وكانت تسجل أرباحاً سنوية قدرها 40 مليار ليرة سورية اعتباراً من عام 2018.
ومن جانبه، أعلن مخلوف بأن “سيريتل” لا تدين للحكومة بأي ضرائب وحذر من أن “انهيار” الشركة سيعني انهيار الاقتصاد بأكمله – ومع ذلك لا يزال موافق على دفع ضرائب بقيمة 100 مليون دولار. وكما أكّد في 17 أيار/ مايو، فهو يكرّس نفسه لحماية سوريا واقتصادها، وتوضح جميع مقاطع الفيديو الثلاثة أنه مستعد لمواصلة التفاوض من أجل “المصلحة العليا” للبلاد التي “تخلّى عنها العالم”. ولهذا السبب على الأرجح طلب العفو حتى عندما ناشد الحكومة إعادة النظر في جميع المخاطر المصاحبة للتحرك ضد إمبراطوريته [الاقتصادية] خلال هذه الفترة “الحساسة والخطيرة”.
وعلى الرغم من الرأي السائد بأن الانشقاقات الأخيرة تشير إلى الزوال المحتمل للنظام، إلّا أن كل من الأسد ومخلوف بحاجة إلى أحدهما الآخر للحفاظ على سوريا من الانهيار المالي. فقد انخفض الاقتصاد بأكثر من 70 في المائة في الفترة بين 2010 و 2017 وحدها، لذلك فإن المزيد من الضرر يمكن أن يكون قاتلاً. وبالتالي من غير المرجح أن يتصاعد الخلاف بينهما إلى حدّ العنف المهلك الذي شوهد في الأزمات العائلية السابقة، ناهيك عن اتخاذ خطوات تهدد وجود النظام نفسه. كما أنّ الحرب التي دامت تسع سنوات، والعقوبات الدولية المستمرة، وتفشي جائحة فيروس كورونا جعلت البلاد هشة للغاية لأي حلّ غير الساحة السياسية، مهما بدا الأمر سيئاً.
ولذلك، حتى مع استمرار [عوامل] الدفع والسحب، تبدو التسوية حتمية، وتظهر بالفعل بوادر لتقديم تنازلات. ويرغب بشار وأسماء بشدة في الضغط على مخلوف للحصول على أموال، ولكن قيام النظام بحجز “احترازي” لممتلكاته قد يشكّل تحذيراً أكثر من مصادرة دائمة، بهدف الضغط عليه لإجراء المزيد من المقايضات. ومن جانبه، قام مخلوف بفضح الأمور على العلن لحماية نفسه، لكنه لا يزال يبدو حريصاً على التفاوض للتوصل إلى اتفاق. وعلى الرغم من أن الوضع الاقتصادي الصعب في سوريا يضيّق الخناق على كلا الطرفين، إلا أنهما قد يتمكنان من الحفاظ على النظام من خلال مضاعفة بعض من تكتيكاته الحالية، مثل تحويل المساعدات الإنسانية، وتهريب البضائع من الخارج، والحفاظ على اقتصاد الحرب، ونقل الأموال من الحسابات الخارجية.
وخلاصة القول، بغض النظر عما قد يحدث من تعديلات داخلية، يبدو النظام راسخاً كما كان قبل الأزمة. [وبالتالي] إذا لم تنجح محاولات الانقلاب والاغتيالات وسنوات الحرب في تحطيمه، فإن نشر الغسيل القذر على وسائل التواصل الاجتماعي لن ينجح هو الآخر أيضاً.
عُلا الرفاعي
معهد واشنطن