في السابع والعشرين من مايو (أيار) الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن بلاده ستفرض عقوبات على قطاعات في البرنامج النووي الإيراني، سبق أن كانت مدرجة تحت بند الإعفاءات في الاتفاق النووي، وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، وأنها ستشمل وقف التعاون في مجال تغيير طبيعة عمل مفاعل أراك للماء الثقيل، وتأمين الوقود النووي لمفاعل طهران المخصص للتحقيقات العملية والطبية، ونقل النفايات النووية الناتجة عن مفاعل بوشهر لإنتاج الطاقة الكهربائية لخارج إيران. وأن هذه الخطوات ستدخل حيز التنفيذ بعد 60 يوماً من تاريخ الإعلان عنها. وعلى الدول والشركات المشاركة بهذه المجالات والمشروعات البدء في تخفيف مشاركتها وصولاً إلى إنهائها في التاريخ المحدد.
القرار الجديد الذي أعلنه بومبيو يعيد فتح الأمور على مختلف الاحتمالات، ويمنح الرئيس الأميركي دونالد ترمب حرية أوسع في التعامل مع الموضوع الإيراني واعتماد الخيار الذي يخدم الأهداف التي يسعى من أجلها عندما قرر الانسحاب من الاتفاق النووي قبل عامين، وفرض ما وصفه بأنه أوسع وأشد وأقسى عقوبات اقتصادية على النظام الإيراني لإجباره على العودة إلى طاولة المفاوضات في إطار اثني عشر شرطاً سبق أن أعلنها بومبيو أيضاً، وتشكّل نقاط اشتباك بين واشنطن وحلفائها الإقليميين مع طهران.
وعلى الرغم من الآثار الواضحة التي تركتها هذه العقوبات في الاقتصاد الإيراني وصولاً إلى الإرباك الذي لحق بنفوذها الإقليمي، خصوصاً بعد عملية استهداف قائد قوة القدس في حرس الثورة قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد مطلع السنة الحالية، فإن النظام الإيراني وعلى الرغم من اعترافه بالآثار السلبية والمدمرة التي لحقت بالاقتصاد وما سببته من أزمات معيشية طالت شرائح واسعة وكبيرة من الشعب الإيراني، لا تزال قيادته العليا متمسكة برفض أي نوع من التفاوض مع الإدارة الأميركية، ومارست ضغوطاً وتهديداً لكل محاولات الحكومة برئاسة حسن روحاني لاستغلال الفرص، التي أتاحتها الوساطات الدولية لفتح باب الحوار بين البلدين، للتوصل إلى حلول تساعد في تقليل الهواجس لدى واشنطن والعواصم الدولية والإقليمية من طموحات إيران النووية والسياسية الإقليمية.
التعاطي الإيراني الرسمي مع القرار الأميركي اتسم بالكثير من “اللامبالاة” فيما يتعلق بالتداعيات المحتملة التي قد تترتب عليه، وعلى بعض الإجراءات التي قامت بها إدارة ترمب في الأسابيع الأخيرة، على الرغم من انشغالها بمعالجة تداعيات أزمة انتشار جائحة كورونا، خصوصاً “الفيتو”، الذي وضعه ترمب على قرار الكونغرس الذي يشترط على الرئيس الحصول على موافقة مجلس النواب على أي قرار عسكري ضد إيران، ما أعاد إطلاق يد الرئيس في اعتماد الخيار الحربي في التعامل مع الأزمة الإيرانية عند وصول الأمور مع طهران إلى طريق مسدود.
وإذا ما اعتبرنا أن قرار استعادة ترمب لقرار الحرب مع إيران شكّل تمهيداً عملياً للرزمة الأخيرة من العقوبات، خصوصاً أنه يقطع آخر قناة كانت تسمح لواشنطن بمواكبة النشاط الإيراني النووي، بخاصة في منشآة أراك للماء الثقيل، كون أن مراقبين أميركيين كانوا يتولون مهمة الرقابة الدولية على هذه الأنشطة قبل أن تنتقل إلى مراقبين بريطانيين بعد إعلان واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي، فإن قرار العقوبات بدوره من المفترض أن يشكل نقطة انطلاق أميركية لمواجهة تداعيات موعد الثامن عشر من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، الذي سينهي وبناء على مفاد قرار مجلس الأمن الدولي 2231 مفاعيل قرار منع إيران من الحصول على الأسلحة التقليدية بيعاً وشراءً. وأن فرصة الأيام الستين لتطبيق قرار العقوبات الجديدة من المفترض أن يحسم الاتجاهات في المواقف الدولية قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية أيضاً، بما يمنح الرئيس ترمب حرية الذهاب إلى خيار التصعيد بما يسمح له الدخول في المعركة الانتخابية بإنجاز عسكري قد لا تقف تداعياته ونتائجه على الانتخابات، بل ستشمل أيضاً مختلف الملفات المفتوحة على الساحة الدولية، خصوصاً أن المتضرر الكبير من العقوبات الجديدة هما الجانب الروسي، الذي يشارك في نشاطات إيران لإنتاج النظائر النووية (ايزوتوب) بمنشأة فردو. إضافة إلى أنه يتحمل مسؤولية نقل النفايات النووية من إيران إلى روسيا بناء على اتفاق ثنائي بين الطرفين تم توقيعه كشرط لتشغيل محطة بوشهر لإنتاج الكهرباء بعد أن أدى إصرار إيران على الاحتفاظ بهذه النفايات إلى عرقلة تشغيل المفاعل، خصوصاً أن المخاوف الروسية حينها كانت تنبع ليس فقط من القلق الدولي، بل أيضاً من إمكانية استخدام طهران هذه النفايات في إنتاج البلوتونيوم بمنشآة أراك للماء الثقيل في نسختها القديمة قبل الاتفاق النووي. والجانب الثاني هو الصين، التي تتولى الشركة النووية الوطنية الصينية عملية تحديث مفاعل أراك للماء الثقيل بناء على الاتفاق الموقع بين طهران ودول مجموعة 5+1 عام 2015.
ردود الفعل الإيرانية على القرار الأميركي الجديد تحاول أن تبدو هادئة، إلا أنها تكشف حجم التحديات التي قد تتسبب بها هذه الإجراءات الأخيرة، خصوصاً أنها تسحب من إيران آخر أوراق المناورة في اللعب على الشروط التي تضمّنها الاتفاق النووي في حال أخلّ أي من الأطراف بالتعهدات الواردة فيه، وهي الشروط التي استخدمتها في السنة الأخيرة في إطار توفير الغطاء القانوني لعملية تقليص تعهداتها النووية على أربع خطوات، سمحت لها بالاحتفاظ بالاتفاق على حافة الانهيار، بما لا يسمح بإعادته إلى مجلس الأمن، وما يعنيه من إمكانية عودة العقوبات بقرار من هذا المجلس.
وإذا ما كانت طهران قد عمدت في السنة الماضية إلى تقليص التزاماتها وتعهداتها النووية على أربع مراحل، تضمّنت وقف بيع الفائض من إنتاج اليورانيوم المخصب فوق مستوى 300 كليو غرام، ورفع مستوى التخصيب من دون أن يصل إلى مستوى 20 في المئة، إضافة إلى رفع سقف تخزينها للمواد المخصبة ورفع مستوى تخزين الماء الثقيل الذي تنتجه، وما يعني من إعادة تفعيل العمل بمنشأة فردو، وهي خطوات لا تزال خاضعة لإشراف وضوابط المراقبين والمفتشين الدوليين والدول المشاركة في الاتفاق، إلا أن أي خطوة قد تقوم بها طهران لتعويض حاجتها للوقود النووي المستخدم في تشغيل مفاعل بوشهر لإنتاج الطاقة، الذي تبلغ كميته 38 طناً، يعني أنها ستقوم بانتهاك الاتفاق الذي حدد سقف مخزونها في الداخل بـ300 كيلو فقط، ما يعني تفعيل العمل بآلية حل النزاعات مباشرة والانتقال إلى مجلس الأمن. فضلاً عن أن أي نشاط لرفع مستوى التخصيب إلى 20 في المئة يعني الأمر نفسه.
وتعتقد طهران أن الهدف الأميركي من العقوبات الأخيرة يسعى لواحد من أمرين، الأول يتمحور حول ردة فعل طهران، وهنا تؤكد أنها لن تذهب إلى أي خطوة يمكن أن يتم تفسيرها خروجاً من الاتفاق النووي، والثاني التأثير في سلوك وتعاون الأعضاء الآخرين في الاتفاق (4+1)، وهو ما سيكون محل اختبار لهذه الدول في قدرتها على الالتزام بالتعهدات أو تطبيق العقوبات الأميركية، وأن الأشهر الأربعة المقبلة هي مرحلة اختيار قدرات التحمل بين الطرفين للوصول إلى نقطة فاصلة، تُنهي حالة التجاذب والانتظار القائمة بينهما.
حسن فحص
اندبندت عربي